القمم، قمم بحسب أطرافها، أو بحسب قضاياها، أو بحسب ظرفها، أو بحسب نتائجها، أو بحسب آثارها. يبدأ توصيف «القمة» لوصف أي محادثات رفيعة المستوى بين زعيمين أو أكثر، وتكون المحادثات رفيعة المستوى كلما اقتربت من مستوى القرار، ثم يذهب توصيف القمة إلى ظروف انعقادها، التي قد تقتضي قرارات حاسمة ذات تأثير في المديين القصير (المباشر) والمتوسط، أما أن يكون لقرارات القمة أو ما ينتج عنها من اتفاقيات أو معاهدات تأثير على المستوى الإستراتيجي يتجاوز حدود طرفيها أو أطرافها، فإننا نصبح بصدد قمة «تاريخية». بالمعايير السابقة، فإن القمة المصرية- السعودية التي بدأت أعمالها أمس في القاهرة، هي بحق قمة «تاريخية» بحسب مستوى التمثيل، وبحسب طبيعة الظرفين الذاتي والموضوعي لطرفيها، وبحسب القضايا التي تعالجها- ومعظمها قضايا محورية أي يمتد تأثيرها إلى ما وراء أطرافها المباشرين- وبحسب ما ستسفر عنه من نتائج مباشرة، بعضها فوري، ومن آثار غير مباشرة، أغلبها قد يمتد إلى زمن قادم. بحسب مستوى التمثيل، فإن القمة السعودية- المصرية بالقاهرة، تضم قائدين من طراز فريد. كلاهما يمتلك رؤية ومشروعًا وطنيًا، يعكس حلم وطنه، ويستوعب ظرف إقليمه، ويُدرك مقتضيات الذهاب إلى المستقبل، لا الاكتفاء بانتظاره على أبواب الوطن. وبحسب الظرف، الذاتي والإقليمي، فإن كلاً من المملكة ومصر، تجتازان منعطفًا استراتيجيًا، تجري خلاله عملية إعادة صياغة رؤية جديدة للذات، في إقليم يتحول، ضمن عالم يتغير. كلاهما، المملكة ومصر، يدركان أنهما معًا الحائط الأخير لإنقاذ النظام الإقليمي العربي كله، وأن التفاهم المصري السعودي، حول مستقبل المنطقة، حيوي ليس لمصالحهما معًا فحسب وإنما لصالح استقرار الإقليم كله، وربما أيضًا لصالح استقرار النظام الدولي برمّته، الذي يخوض بدوره طورًا جديدًا تجرى خلاله عملية صياغة مبادئ جديدة حاكمة للعلاقات الدولية ربما لمئة عام مقبلة. وسط حالة سيولة عصفت بالمنطقة، مع اندلاع أحداث ما سُمِّي بالربيع العربي التي عكست شوق شعوب المنطقة إلى التغيير وتطلعها باتجاه تحديث بنيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، احتفظت المملكة العربية السعودية، بتماسكها، وتجلّت في الشدائد، شدّتها وبأسها، وبوعي إستراتيجي رفيع، انحازت الرياض لخيار دعم استقرار مصر، باعتباره جوهريًا لاستقرار المنطقة برمتها، وباعتبار أن الحضور الإقليمي المصري، أحد ضرورات البقاء للإقليم كله، فيما كانت قوى إقليمية من خارج النظام الإقليمي العربي تتطلع إلى اغتنام لحظات الزلزال العربي لاقتناص مواطىء أقدام في اليمن وفي المشرق العربي بسوريا ولبنان والعراق، وفي المغرب العربي بليبيا وتونس. كانت خارطة الإقليم ترتعش، لكن قرار السعودية بدعم مصر لم يصدر عن يد مرتعشة، وإنما عن بصيرة زادتها السنين حدة وحكمة، فدعم مصر سوف يعني، إنقاذ الإقليم برمّته، أو على الأقل وضعه على طريق الإنقاذ، وهو ما حدث بالفعل. في حال السيولة ذاتها، استطاع المصريون أن يحافظوا على تماسك بلادهم، وأن يمتلكوا في نفس الوقت رؤية للإقليم، وتصورًا للأطوار والأدوار فيه، تمكّنوا معه من استعادة أقدم دولة في التاريخ، ثم من تهيئتها للاضطلاع بدورها في صيانة أمن واستقرار واستقلال الإقليم، والتصدي للطامعين فيه، عبر تحالف سيذكر التاريخ (لاحقًا) أنه كان تحالف تاريخي بين مصر والسعودية، اختار له الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عنوانًا موجزًا وبسيطًا ومباشرًا، ومعبرًا «مسافة السكة»، أي أن التزام مصر بالدفاع عن أمن أشقائها في السعودية والخليج، ليس موضع نقاش أو بحث، وإنما هو قيد التنفيذ في إطار الزمن الذي تستغرقه رحلة الدبابة أو الطائرة إلى مسرح العمليات المراد تأمينه وحمايته والدفاع عنه. الدعم السعودي لمصر حقق هو أيضًا شعار مسافة السكة، فلم ينتظر طلبًا، ولا تطلّب وقتًا، وإنما تحقّق بالفعل قبل القول. هذا التناغم السعودي- المصري، يعكس تفهمًا في العمق لدى القيادتين والبلدين، لضرورات الظرف، ولمتطلبات التعامل معه، واستيعابًا لتوافق إستراتيجي بين البلدين استوعب كافة العناوين الكبرى، دون أن يعوقه اختلاف، في بعض المحطات، أو حول ترتيب بعض الأولويات. الاختلاف، والتنوع، هو المادة الأولية لصناعة «التناغم»، فأنت لا تستطيع إنتاج مقطوعة موسيقية رائعة وخالدة، من نغمة واحدة وبإيقاع واحد، وفي هذا السياق، أدعو الحالمين بالتطابق في علاقات دولهم إلى التخلِّي عن الأحلام، فالتطابق لا وجود له حتى بين التوائم السيامية، وهو لا يتيح بذاته، إن وُجد أصلاً، خيارات كافية أمام صنّاع القرارات وواضعي السياسات. المنطقة تدخل في عام ٢٠١٦ طور إعادة الصياغة، خارج ساحات القتال، وهو طور العناوين الكبرى من نوع (وحدة أراضي سوريا) و(استقرار اليمن) و(السلام في ليبيا)، لكن الطريق إلى العناوين الكبرى يحب أن يبدأ بتفاهمات كبرى تُحقِّق مأسسة التحالف المصري /السعودي/ الخليجي، باعتباره الذراع القادرة على بسط الرؤية العربية الكبرى للإقليم، وتحقيق العناوين الكبرى للتسويات النهائية، في إطار صياغة نظام إقليمي عربي جديد. ألم أقل لكم أن قمة سلمان- السيسي تاريخية بكل المقاييس. الرجلان يصوغان معًا من رحاب التاريخ في مصر، آفاقًا أرحب لمستقبل المنطقة كلها. moneammostafa@gmail.com
مشاركة :