قلتُ مرارًا في هذا الموضع، إن مصير النظام الإقليمي للشرق الأوسط برمَّته سوف يتقرَّر في سوريا، غير أنَّ اللاعبين الإقليميين لا يرسمون خارطة الإقليم هكذا فوق سحابة تعبر سماواته، بمعزل عن العالم، وإنّما يطرحون رؤيتهم فوق خارطة نظام دولي، تُجسِّده حقائق القوة والقدرة معًا. أم المشكلات، وأصل المعضلات التي تعوق عملية إنجاز خارطة للنظام الإقليمي الشرق أوسطي الجديد، الذي يستوعب حقائق القوة المُتغيِّرة، ويعكس الأوزان النوعية لكل قوة في الإقليم، هي أن النظام الدولي ذاته يجتاز مرحلة سيولة، يصعب معها تصوُّر خارطته، أو قياس قدرة أقطابه على التأثير والتغيير. مستوى الدمار الذي لحق بسوريا على مدى خمس سنوات من الصراع، يتفوَّق على ما جرى في حروب البلقان في مطلع التسعينيات، بل ربما فاق ما لحق بكبريات المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وبرغم فداحة الأثر الإنساني للصراع، الذي جاوز عدد ضحاياه نحو ربع مليون قتيل، وأضعافهم من الجرحى، فضلاً عن ملايين اللاجئين، الذين تحوَّلوا إلى ورقة ضغط سياسية، توشك أن تعصف بالاتحاد الأوروبي كله، بقوانينه، ومعاهداته، وقيمه، ومبادئه، برغم كل ذلك، وربما بسبب ذلك أيضًا، يبدو الصراع عصيًّا على التسوية.. لماذا؟!. التعقيدات التي تكتنف الملف السوري، أصعب من أن تنهيها حرب، وأعقد من أن يُفكِّكها سلام، الجميع يقول إنه جاء لمحاربة داعش، وينسى أن داعش في سوريا هي العَرَض وليس المَرَض، وأنّها لم تكن هناك؛ يوم خَرَج السوريون مُطالبين بإسقاط النظام، غير أن الإنصاف يقتضي الإقرار بأن العَرَض الداعشي، قد تجاوز المَرَض الأصلي، وأن مستوى التهديد الذي تُمثِّله داعش للنظام الدولي كله، يتجاوز مستوى التهديد الذي يُمثِّله النظام السوري ذاته. فداعش تدمي قلب العالم، ونظام الأسد يوجع ضمير العالم.. هكذا جرى تشخيص الحالة في موسكو، وهكذا استطاع الروس فيما يبدو إقناع الأمريكيين برؤيتهم، ولهذا السبب، رأينا خلافًا يشتعل في الساعات الأخيرة، بين واشنطن وأنقرة حليفتها في الناتو، الأولى ترى أن الاتحاد الديمقراطي الكردستاني حليف في الحرب على الإرهاب، والثانية تراه حليفًا لحزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تركيا جماعة إرهابية، وتشاطرها واشنطن الرأي بشأنه. خلاف واشنطن وأنقرة، يزيد الأمور تعقيدًا في سوريا، ويطيل أمد الحرب هناك، عكس رغبتهما المعلنة، فيما تعتبر موسكو أن هذا الخلاف يمنحها وقتًا إضافيًّا لتغيير الحقائق بالقوّة على الأرض، وفرض واقع جديد على المتفاوضين في أيّ جولة مقبلة، ولعلّ هذا يُفسِّر اشتعال المعارك في حلب، قرب الحدود التركية، فيما يتواصل القصف الجوي الروسي العنيف، أملاً في استعادة حلب، العاصمة الاقتصادية لسوريا، قبل استئناف المفاوضات. الحضور الأمريكي الباهت في الأزمة السورية، يُطيل أمد الصراع، ويرفع تكلفته الإنسانية والسياسية، ويدفع الأطراف الإقليمية إلى مستويات من التصعيد قد لا يُمكن لجمها إذا ما استعرت الحرب، لكن أمريكا في عام الانتخابات الرئاسية، تبدو فعلاً كـ»بطّة عرجاء»، حاضرة بممثليها، غائبة بتأثيرها. موسكو التي انتزعت زمام المبادأة مبكرًا، منذ تدخُّلها العسكري المباشر في الأزمة، باتت هي الطرف الذي يصنع التغيير، ويسعى لفرضه، وفيما يبدو فإن واشنطن لا تُمانع في مسايرة الرؤية الروسية، بشأن تصوراتها للتسوية، وكلنا يتذكَّر كيف تدحرجت مواقف الرئيس أوباما من مطالبته للأسد بالرحيل فورًا، إلى مطالبته بالرحيل لاحقًا، إلى اعتباره جزءًا من التسوية، وكلنا نذكر أيضًا، أن أوباما الذي قال قبل شهور إن الحرب ضد داعش قد تستغرق ثلاثين عامًا، هو نفسه الذي اعتبر بعد هجمات باريس، أن الأولوية هي للقضاء على داعش، وليس للإطاحة بنظام بشار الأسد. مشاورات ميونيخ التي بدأت أمس (الخميس) لن تضع نهاية للصراع في سوريا، ولن تُوفِّر حلاً للأزمة، لكنها على الأرجح سوف تمنح الروس وقتًا مستقطعًا، لتغيير موازين القوة على الأرض، ما قد يفتح الباب أمام حصة جديدة تجري خلالها الأطراف الإقليمية (شخبطة إستراتيجية) لخارطة نظام إقليمي جديد، لن ترى النور قبل أن يُقرِّر الروس والأمريكيون ملامح النظام الدولي المقبل. moneammostafa@gmail.com
مشاركة :