شذرات من سيرة ذاتية.. البدايات (13) - أ.د. محمد خير محمود البقاعي

  • 3/22/2024
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يبدو أن أسرة البقاعي في حمص تنسب إلى سهل البقاع الذي يقع اليوم ضمن الحدود الإدارية للجمهورية اللبنانية، وبالتحديد إلى قرية تسمى»خربة روحا» في قضاء راشيا، محافظة البقاع. مركز المحافظة زحلة ومركز القضاء راشيا. وهذه التسمية (خربة) منتشرة في سورية ولبنان في المناطق المتقاربة عبر الحدود، وتعني المكان المتداعي، ويقال: إن اسمها كان «الروحاء» قبل أن تحمل هذه التسمية. وأشهر من خرج من هذه القرية إمام التفسير والتاريخ برهان الدين البِقاعي (809-895هـ/1407-1480م) هو إبراهيم بن عمر بن حسن بن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي، خرج منها إلى دمشق ثم إلى القاهرة وعاد إلى دمشق؛ وهو صاحب التفسير الفريد «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» أوتفسير البقاعي الذي يقع في طبعته المعتمدة 1404هـ/1984م في 22 مجلدا، دار الكتاب الإسلامي. وهو من الكتب الجليلة، وضع فيه مصنفه علما لم يسبقه إليه أحد، ذكر فيه مناسبات ترتيب السور والآيات، أطال فيه التدبر وأنعم فيه التفكر لآيات الكتاب، وقد شمل في كتابه على أحد جوانب الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، وبيّن الربط بين جميع أجزاء القرآن، ووجه النظم مفصلا بين كل آية وآية في كل سورة من القرآن الكريم. وكان- رحمه الله- من منكري التصوف المفرط وله كتب في نقد ابن عربي ومذهبه، وتعرض لمحن كثيرة في حياته جعلته يعود إلى دمشق. ويبدو أن الجد مصطفى انتقل إلى بلدة قريبة من البقاع هي اليوم في سورية اسمها «القصير» وهي مدينة تابعة اليوم لمحافظة حمص قريبة من الحدود اللبنانية، وكان الوالد محمود مصطفى البقاعي (1914-1994م)- رحمه الله- يلقب حيث استقر به المقام بالقصيراوي ولما سألته عن هذه النسبة قال: إنهم رحلوا إلى القصير لأن بينهم وبين الشيخ نجيب رعد (1901-1987م) رحمه الله قرابة خؤولة؛ وهو من وجهاء قبيلة الجحيش الزبيدية المنتشرة في أنحاء سورية. له تاريخ حافل بمقاومة المحتل الفرنسي والكرم وسعة الأفق. ولما هاجروا من القصير إلى بابا عمرو أطلقوا عليه اللقب باسم المكان الذي جاء منه كما جرت العادة «القصيراوي». استقر المقام بالأسرة في باباعمرو، وكانت عندما وصل إليها مع أخويه قرية صغيرة اكتسبت اسمها من المقام الذي أقيم عليه مسجد يقال إنه مقام عمرو بن معدي كرب الزبيدي، وأرجح ما ثبت لدي أن «بابا» كلمة عثمانية تركية قديمة وقد سألت عنها الزميل الأستاذ الدكتور سهيل صابان -يحفظه الله- فأجاب: «وفي الأدبيات التركية القديمة تستخدم البابا بحرف الباء، ويقصد به: الواصل إلى الله، الولي.» تقع بابا عمرو على جانبي ما يسمى «ساقية» الري وهي قناة شقها «المجاهد أسد الدين شيركوه الثاني عام 584هـ وسميت باسمه «الساقية المجاهدية» وجددها الفرنسيون إبان الاستعمار ووسعوها وفرشوا أرضيتها وجدرانها بالإسمنت وزادوا ارتفاعها فأصبحت أكثر استيعابا للمياه. تخترق الساقية الأراضي الزراعية لعدة قرى بين حمص وحماة حيث تعود لتصب في العاصي. وكانت تلك الأراضي خزان المحافظة كلها من الخضار والفواكه والحبوب سنوات طويلة قبل أن تفسد مياه البحيرة التي تنبثق منها بمخلفات مصنع الكهرباء ومصنع الأسمدة التي قتلت فيها كل ما يتحرك بعد أن كانت عذبة صافية تسقي المحاصيل والبشر. ويأكلون منها الأسماك (البلطي) التي استجلبت من مصر إبان الوحدة السورية المصرية فأطلق عليها السكان اسم «السمك الناصري.» تزوج الوالد من قريبة له «الحاجة أمينة» -رحمها الله-، ولم ينجب منها فتزوج والدتي -رحمها الله- «فطيم الصاج» من قرية « المباركية» التي لا تبعد كثيرا عن سد بحيرة قطينة شرقا وقطينة هذه التي يحمل السد اسمها قرية اشتق اسمها من المكان الذي كان يقطنه عدد من الرهبان وسكانها من النصارى، يعيشون بوئام مع القرى المجاورة التي يقطنها المسلمون. وكنا نسكن في بابا عمرو بيتا لا يفصله عن ساقية الري التي أشرت إليها إلا طريق ضيقة، وقريب منه جسر تعبر عليه العربات والسيارات والبشر إلى الأراضي الزراعية. كانت ولادتي وقد بلغ الوالد سن الأربعين مصدر فرح وسرور كما هي العادة في المجتمعات الزراعية التي يكون فيها الأبناء، شأنها شأن طبقات المجتمع الأخرى، مصدر فرح وشعور بالاستمرارية والطمأنينة. لقيت بالطبع عناية أهل المنزل الفائقة في ظل الإمكانات المتوافرة، وعلى وجه الخصوص من زوجة الوالد الأولى (عمتي)؛ التي لم تسعها الدنيا من الفرح، وكانت تحرص على العناية بي والحدب علي بما يسعد الوالدة ويريح بالها. في الخامسة قرر الوالد إرسالي إلى الكتاب لتعلم القرآن الكريم بعناية الشيخ أبيعبد الباري، وكان شخصية عجيبة لا يتقن القراءة إلا في القرآن الكريم. كانت الدراسة فلكلورية قرأت وصفا يشبه ما أذكره بعد زمن في كتاب «الأيام» لطه حسين، واستغرقت مدة الدراسة سنتين لأدخل بعدها المدرسة الابتدائية في سن السابعة بعد ختم القرآن الكريم. كان في القرية مدرسة ابتدائية (حتى الصف السادس) انتقلت بعدها إلى المرحلة الإعدادية (7-9) التي يحصل التلميذ بعد عبورها على شهادة الدراسة الإعدادية (المتوسطة). ولست أدري من اختار لي أن أدرس اللغة الفرنسية لغة أجنبية في إعدادية سعيد العاص في حي المحطة القريب من محطة القطار جنوب حمص إلى الغرب قليلا. درست اللغة الفرنسية، وتجاوزت إلى المرحلة الثانوية (الصف العاشر) في مدرسة تحمل اسم رفيق رزق سلوم (1891-1916) تقع شرق حمص على الطريق المؤدية إلى دمشق. ورفيق رزق سلوم محامٍ وشاعر سوري من مدينة حمص، كان معارضاً للدولة العثمانية وأُعدم في دمشق بأمر من الحاكم العسكري جمال باشا يوم 6 أيار 1916 م. وبعد هذه المرحلة كان على التلميذ الاختيار بين الدراسة العلمية أو الأدبية واخترت بالطبع الفرع الأدبي فكان علي الانتقال إلى مدرسة ثانوية أخرى هي ثانوية الفارابي أبو نصر واسمه الأساسي محمد، وُلد عام 260 هـ(874 م)، في فاراب في إقليم تركستان (كازاخستان حاليًا) وتُوفي عام 339 هـ). وكانت قريبة من مركز المدينة. عاملان كان لهما أثر في تكويني هما قراءة القرآن الكريم والسير الشعبية (عنتر بن شداد، علي الزيبق، ألف ليلة وليلة، سيف بن ذي يزن)، وبعض روايات نجيب محفوظ كالثلاثية وغير ذلك مما كان يجتذب المراهقين في مثل هذه المرحلة العمرية، كل هذا ناهيك عن ممارسة كرة القدم، فاستهلك كل هذا وقتي وشتت فكري لأخفق في امتحانات الشهادة الثانوية (البكالوريا)، ولم أتعظ كعادة الشباب في مثل هذه السن وقضيت سنة أخرى في ثانوية الفارابي لم تكن مختلفة عن سابقتها فاستهلك طيش الشباب سنتين من عمري (1974-1975 م) وكان علي بعد ذلك الالتحاق بمدرسة خاصة (عمر بن الخطاب) التي حالفني فيها التوفيق بالحصول على شهادة الثانوية- الفرع الأدبي وأتاح لي حصولي على درجة عالية نسبيا في مادة اللغة العربية دخول قسم اللغة العربية في جامعة دمشق 1976م. كانت درجتي في اللغة الفرنسية في حدود المقبول، واستمر ذلك إبان دراستي اللغة الفرنسية في الجامعة. تخرجت في جامعة دمشق عام 1980م. وسمح لي معدلي بدخول ما يسمى دبلوم الدراسات العليا- الفرع اللغوي 1981 م. وسجلت في مرحلة الماجستير بإشراف الأستاذ الدكتور مسعود بوبو (1357- 1420هـ/ 1938- 1999م) رحمه الله وكان موضوعها تحقيق كتاب: «الفرق بين الحروف الخمسة» لعبد الله بن محمد بن السيد البَطَلْيَوْسِيُّ (444 هـ – 521 هـ / 1052م – 1127م)، ودراسته؛ وهو من الكتب المهمة الرائدة ينصرف موضوعه الى ذكر الفروق بين الأحرف الخمسة (الظاء والضاد، والصاد، والذال، والسين) التي يغلط فيها كثير من خواص الناس فضلاً عن عوامهم. وقد جاء الكتاب في خمسة فصول تضمن كل فصل منها المسائل والأمثلة المتعلقة بنطق هذه الحروف. بدأت العمل ونسخت المخطوطة، وبدأت مرحلة التحقيق، وصدرت في هذه الأثناء مسابقة المعيدين وقُبل طلبي معيدا في قسم اللغة العربية في جامعة حمص، بتخصص النقد الأدبي الحديث، وكان التوجه للابتعاث الخارجي، ولما كانت اللغة الأجنبية التي درستها الفرنسية رأيت ورأى الأصدقاء الناصحون أن يكون الإيفاد إلى فرنسا فبدأتي إجراءات التعيين والبحث عن قبول من إحدى الجامعات الفرنسية. وينبغي الوقوف في هذه الشذرة عند مرحلة التكوين الاجتماعي والعلمي في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة دمشق، وفي المدينة المترامية الأطراف التي تعج بأصناف البشر وتصقل شخصية القادم إليها بقوانين صعوبة الحياة وتشعب مقتضياتها. لم يكن السكن الجامعي متاحا لكل طلبة الأقسام الأدبية، وكان علي العثور على سكن بعيدا عن أسوار الجامعة، وكان لي ابن عم متطوع في الجيش يخدم في ريف دمشق ويستأجر غرفة قريبة على مكان خدمته، في منطقة برزة، وتصادف قدومي إلى دمشق مع ارتكابه مخالفة نال عليها عقوبة السجن سنة وكان يريد الاحتفاظ بغرفته في منطقة «برزة البلد» وهي قرية من غوطة دمشق، هي حالياً إحدى مناطق مدينة دمشق الحديثة، وهي قديمة جداً يعود تاريخها إلى ما يوازي دمشق نفسها من حيث القدم. فعرض علي السكن في الغرفة وتسديد أجرتها فوجدتها فرصة سانحة مع بعدها عن الجامعة مسافة طويلة كنت أنام في الطريق إليها تعبا. وأغادرها في الصباح الباكر في رحلتي اليومية لمدة سنة. ولما انتهت المدة عاد صاحب الغرفة إلى غرفته التي لا تتسع لنا معا لاختلاف الطباع والاهتمامات. وكان لي ابن خال ضابطا في الجيش حديث الزواج، يسكن في دمشق. المدينة (شارع بغداد) الذي يمتد من ساحة السبع بحرات إلى ساحة التحرير جهة الشمال في الطريق المؤدية إلى بغداد، وكان سكناه في محلة «القزازين» التي تمتد من العمارة البرانية بشارع الملك فيصل جنوبا الى شارع بغداد شمالا وإلى الشرق من مقبرة الدحداح. ومن الناس من ينسب التسمية إلى الزجاج الذي تسميه العامة «أزاز» وهو في الأصل «قزاز» كما يقولون في «قلب» «ألب» لوجود معامل الزجاج المزخرف فيه. كان البيت مؤلفاً من غرفتين إحداهما كبيرة وأمامها حمام ومطبخ وإلى جانبها غرفة أخرى متوسطة كنت والأخ الأصغر لابن خالي نفترش الأرض فيها، وكان مثلي طالبا في كلية الزراعة التي لا تبعد كثيرا عن البيت. كانت استضافة مريحة أكثر قربا ونظافة وأطيب طعاما من المكان الأول، واستمرت إقامتي معهم سنة جرى في آخرها إعلام ابن خالي بالانتقال إلى مدينة حلب، وكان ابن خالي الآخر على وشك التخرج في كلية الزراعة لأعود من جديد إلى مهنة البحث عن سكنى تتوجت بالعثور على سكن فلكلوري عجيب في سفح جبل قاسيون في حي الشيخ محيي الدين الجادة الثالثة التي يبدأ الصعود إليها من ساحة يعقد فيها يوم الجمعة سوحافل يسمى سوق الجمعة، في أول الزقاق الصاعد إلى اليسار كان مسجد الشيخ محيي الدين بن عربي محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي (550هـ/1165م -638هـ/1240م) الذي ولد في مرسية الأندلس وتوفي في دمشق ودفن في سفح جبل قاسيون وعلى مقامه مسجد يعج بالمصلين وعلى وجه الخصوص يوم الجمعة عند انعقاد السوق. كان الطريق الذي يفضي إلى الجادة الثالثة حيث السكنى ضيقة ومظلمة في الليل لانقطاع التيار في بعض الأحايين. كانت المنطقة شعبية والبيت تدخله إلى موزع صغير فيه مطبخ صغير وحمام أصغر ثم تصعد بدرج إلى الغرفة الأولى (غرفتي) ثم الغرفة الوسطى التي يقطنها صديقان كانا في كلية الحقوق، وقربها صالة صغيرة للطعام ثم يصعد الدرج إلى الغرفة العليا التي يسكنها صديق في كلية الطب كانت مجلسنا للنافذة الكبيرة التي في جانبها الجنوبي الذي يطل على واحد من أروع مناظر مدينة دمشق، وعلى وجه الخصوص ليلا في شهر رمضان الذي تتحول فيه المدينة إلى كتلة مشعة مختلفة الألوان تسبح المآذن في فضائها الذي تملؤه أكثر الأصوات حلاوة بكلام عليه طلاوة. كنت حينئذ في السنة الثالثة من قسم اللغة العربية وقضيت في هذه البيئة الفلكلورية زمنا من أجمل أيام الشباب بناء وتحصيلا. ولنا لقاء.

مشاركة :