يكتب الشاعر سلمان زين الدين قصيدته بلغة هادئة ومتينة. لا يحيد عن خصوصية الشكل المحدد للقصيدة الكلاسيكية، التي لا تجاري (شكلاً) قصيدة الحداثة. والحديث مع زين الدين حول هذا الرسوخ والوقوف مع القصيدة الموزونة والمفعلة، يفتح باب النقاش ولا يقفله. وفي أجوبته قناعة راسخة لديه تقول بحتمية الوزن للقصيدة. في ضمائر منفصلة عنوان كتابه الصادر حديثاً في بيروت عن دار نلسن، يواصل الشاعر كتابة قصيدته، التي لا تحيد عن الكلاسيكية العريقة؟ } لماذا الشعر، هل القصيدة التي تكتبها هي واجبك أو تسليتك أو ماذا...؟ أن تسأل شاعراً لماذا الشعر؟ كمن يسأل الزهرة لماذا العطر؟، والشمس لماذا النور؟، والمطرب لماذا الغناء؟، والمفكر لماذا الفكر؟... مما يشكل وظيفة طبيعية لكل من هؤلاء، إن لم يكن مبرر وجوده. بهذا المعنى، يمكنني أن أجيب إلى الشق الأول من سؤالك بأن الشعر بالنسبة لي هو فعل حياة أمارسه فتغدو الحياة أجمل. وهذا يقودني إلى الإجابة على الشق الثاني من السؤال بالقول إن القصيدة التي أكتب إنما تندرج في إطار هذا الفعل، وفي الإعلان عن الوجود والكينونة، وهي ليست واجباً على الإطلاق ما يقيد حرية الإبداع، وليست تسلية ما يسلع العملية الإبداعية. لعلها أقرب إلى الحق في ممارسة الإبداع والتحقق الوجودي، والحق في ممارسة اللعب الجميل بالكلمات واجتراح الفرح، وبذلك، يحقق الشعر، من خلال القصيدة، وظيفتي الأدب عبر التاريخ: الفائدة والمتعة. } متى تكتب؟. أقصد هل تنطلق من طقوس معينة بالكتابة؟ لا يوجد لدي وقت محدد للكتابة، ولا أنطلق من طقوس معينة. الأمر يتوقف على الحالة الشعرية التي تداهمنا، على شكل دورات غير دورية، تطول أو تقصر. ثمة دورة شعرية يعيشها الشاعر بين فترة وأخرى، هي نوع من مخاض تتم خلاله ولادة القصيدة. أحياناً يسقط علي المطلع لدى وضع رأسي على الوسادة، وأحياناً لدى النهوض من النوم، وأحياناً خلال قيادة السيارة...، وبعد ذلك، تتم عملية الصناعة الشعرية، دفعة واحدة أو بالتقسيط، ويتمخض عن هذه العملية القصيدة. } قصيدتك لا تحيد عن الشكل الكلاسيكي، وكأنها لا تريد الدخول إلى المساحة الشعرية الحرة المتمثلة بقصيدة الحداثة. هل هذا خيار بحت أو أنك في قناعة أخرى؟ أنا أمارس حريتي الإبداعية في إطار البحر أو التفعيلة، وهما: إطاران يوفران لقصيدتي الموسيقى، التي هي برأيي مكون أساسي من مكونات الشعر، وهذان الإطاران لا يتنافيان مع الحداثة التي هي مسألة تتعدى الأطر، سواء أكانت ضيقة أم رحبة، إلى التركيب الأفقي والعمودي بالمعنى التقني، وإلى النظرة للوجود والحياة. إذا كان لي أن أضرب مثلاً توضيحياً من الطبيعة أستطيع القول إن البحر إطار حركة الموج، يتخطى القدامة والحداثة، وأن التجديد الفعلي، إنما يتم من خلال هذه الحركة والمد والجزر وسرعة الرياح وجاذبية القمر، وليس من خلال تحطيم الإطار. تصور معي لو أن البحر جرى تحطيمه بقدرة قادر، فما الذي يحل باليابسة ومن عليها؟ وبالتالي ليس من الضروري أن تكون القصيدة الخارجة على إطاري البحر والتفعيلة، قصيدة حديثة. المسألة لا تتعلق بتوزيع الكلام على الصفحة، ولا بزمن الكتابة. ثمة من يرى أن الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد أكثر حداثة، في بعض تجلياته، من كثيرين ممن يكتبون قصيدة النثر، دون أن يعني ذلك أن لدي موقفاً سلبياً من هذه القصيدة، التي هي إطار بدورها من أطر الكتابة تستوعب الرؤى الحديثة كما تستوعب الرؤى التقليدية. المهم كيف ننظر إلى الأشياء، لا الإطار الذي ننظر من خلاله. } رغم أهمية القصيدة الكلاسيكية نلاحظ انحسارها على كل المستويات، مع القارئ وكذلك مع كاتبها. ألا تخشى من هذا الانحسار وتالياً، ربما، تجد قصيدتك اليوم في مساحة ضيقة جداً ؟ إذا سلمنا جدلاً بما تقول، متى كان الرواج معياراً للإبداع؟ وعلى العكس من ذلك، قد تكون الندرة هي أقرب إلى هذا المعيار. شخصياً، أرى أن الشعر فن نخبوي بامتياز، ولا يعنيني من قريب أو بعيد كثرة المصفقين والمطبلين والمزمرين وعدد القراء بقدر ما يعنيني أن أمارس قناعاتي الإبداعية. } ماذا تعني لك تجربة الشعر الحديث؟ تجربة الشعر الحديث حلقة أساسية في سلسلة تاريخ الشعر العربي، تمظهرت في أشكال متعاقبة، آخرها قصيدة النثر. وعلى أهمية هذه التجربة، أكرر ما سبق وقلته من أن الحداثة مسألة عابرة للأطر والأشكال، وهي موجودة في الشعر العمودي، وفي شطحات الصوفية، وفي قصيدة التفعيلة كما هي موجودة في قصيدة النثر. الشكل ليس هو ما يمنح الشعر حداثته، بل المضمون والرؤية. } موضع قصيدتك من أين يبدأ؟ وهل هو نتاج معاناة أو نتاج سعادة وما دوافع الكتابة لديك؟ القصيدة تبدأ من الحالة الدورة الشعرية التي يعيشها الشاعر، بشكل غير مباشر، ومن وجود حافز للكتابة أو محرك، بشكل مباشر. هذا المحرك قد يكون فرحاً أو حزناً أو خلاف ذلك من الحالات الشعورية، التي تَعرِضُ له في الحياة. على أن هذه الحالات الشعورية ناجمة بدورها عن الجمال، على أنواعه، وعن الحقيقة، على تنوعها ضمن وحدتها. أعترف أن دوافع الكتابة لدي هي ما يثيره الجمال أو الحقيقة فيَّ من انفعالات وتأملات، ولا بد من أن تكون للشاعر عين رائية، وأذن مرهفة، ورادار قادر على التقاط أدق الذبذبات. } نلت أخيراً جائزة سعيد عقل عن فئة الشعر. ما طبيعة هذه الجائزة، وماذا تخبر القارئ عنها؟ كان لي شرف نيل جائزة الشاعر اللبناني سعيد عقل التي منحتها جامعة سيدة اللويزة للعام 2015 عن فئة الشعر، وقد شكل ذلك اعترافاً بشعري أفتخر به لارتباط الجائزة باسم شاعر كبير، ولصدورها عن مؤسسة أكاديمية عريقة اعتمدت آليات اختيار دقيقة. وهذه الجائزة كان الشاعر يمنحها في حياته لمبرز في مجال معين، يختاره بنفسه على جزئية أتاها في حقل معرفي معين، غير أن ما يميز جائزة هذا العام أنها تُمنح للمرة الأولى بعد رحيله، وأن فئاتها تعددت لتشمل حقولاً معرفية عدة، وأن عملية الاختيار قامت بها لجنة مختصة. } أما زال الشعر يستحق كل هذا الاهتمام؟ نعم يستحق. للأسف، الشعر لا يحظى اليوم بالاهتمام المطلوب.. فبعد أن كان الشعر ديوان العرب، انتقلت هذه الديوانية إلى أنواع أدبية أخرى. برأيي، لا تزر وازرة وزر أخرى، والحياة التي تخلو من الشعر والفنون هي حياة جافة وبلا روح. الفنون، وفي طليعتها الشعر، هي روح العالم. } إلى جانب الشعر تكتب النقد والنثر. هل سلمان زين الدين شاعر ناقد لأشعاره؟ في كل شاعر ناقد ما يراقب عمله ويُصوب خطواته، وهذا أمر مرغوب فيه. أما أن يتحول الناقد إلى رقيب يمارس القمع النقدي، فهذا يتعارض مع حرية الإبداع، ويطيح بالعملية الإبداعية، برمتها. نحن بحاجة إلى النقد بجرعات معينة، وحين تزيد هذه عن حدها يصبح الإبداع في خبر كان. أنا أراقب ما أكتب بحدود معينة، لكنني لا أستطيع أن أكتب ومسدس النقد مصوب إلى رأسي. } هل أنصفك النقد، وكيف ترى حال النقد الأدبي اليوم؟ في الإجابة إلى الشق الأول من سؤالك، أستطيع أن أميز بين مستويين، الأول يتعلق بالنقد الصحفي والمتابعات المكتوبة. هنا أقول إن النقد على هذا الصعيد أنصفني، وإن كانت تجربتي لم تتم الإضاءة عليها بالقدر الكافي من الإعلام المرئي. المستوى الثاني يتعلق بالنقد الأكاديمي، وهنا أقول إن النقد لم ينصفن، ولم يشر إلى تجربتي، على تنوعها، من قريب أو بعيد. وفي الإجابة إلى الشق الثاني من السؤال أستطيع القول، في حدود قدرتي على المتابعة، إنه يكاد يقتصر على المتابعات الصحفية التي تطغى عليها الانطباعية والاستعجال والعلاقات العامة، ويفتقر إلى الدراسات المنهجية الرصينة إلا في ما ندر.
مشاركة :