وقعت وسائل الإعلام الليبية في جملة من الإخلالات المهنية بنسب متفاوتة، لكنها تشكل خطورة؛ إذ تترك أثرا بالغا على المجتمع والجمهور، بطريقة تغذي الانقسامات السياسية والاجتماعية في بلد يحتاج إلى وأد الانقسامات للوصول إلى المصالحة والاستقرار. طرابلس - كشفت الهيئة العامة لرصد المحتوى الإعلامي التابعة لحكومة الوحدة الوطنية في ليبيا عن إخلالات في المعايير المهنية التي تقدمها مختلف وسائل الإعلام، تلقي بظلالها على المجتمع لتضمنها انتهاكات مثل السب والتشهير أو الافتراء أو الإهانة أو التحريض. وتابعت الهيئة مضامين 23 وسيلة إعلامية محلية، تنوعت ما بين القنوات التلفزيونية والصحف الإلكترونية ووكالات الأنباء، في الفترة الممتدة من الأول من يناير إلى نهاية شهر ديسمبر 2023، حيث ارتكبت هذه الوسائل خلال تلك الفترة 1527 إخلالا، توزعت بواقع 760 إخلالا في القنوات التلفزيونية و767 إخلالا في الصحف. ويعتمد التقرير على ما جاء في دليل منهجية الرصد الإعلامي المعتمدة من الهيئة، والتي صنفت الإخلالات إلى 15 إخلالا من بينها السب والتشهير أو الافتراء أو الإهانة، ثم التضليل، فالحض على بغض طائفة من الناس أو الازدراء بها، ثم إظهار الأطفال أو الفئات المهمشة أو الضعيفة في صورة سلبية. وسجل التقرير الانخفاض الملحوظ في عدد الإخلالات المهنية، والتي بلغت 1527 إخلالا في العام الماضي مقارنة بالعام 2022 حيث تجاوزت 20000 إخلال . وارتكب تلفزيون “التناصح” 239 إخلالا، أي ما نسبته 15.65 في المئة من مجمل الإخلالات تتراوح ما بين “السب، والتشهير، والافتراء، والإهانة، والحضّ على بغض طائفة من الناس أو الازدراء بها” وأيضًا “التضليل”، فيما كانت المرتبة التالية من نصيب قناة “ليبيا الحدث” بعدد 201 إخلال، والذي يشكل ما نسبته 13.16 في المئة من إجمالي الإخلالات، وكانت أبرزها “إظهار الأطفال أو الفئات المهمشة أو الضعيفة في صورة سلبية” في المرتبة الأولى ويليها “السب، أو التشهير، أو الافتراء، أو الإهانة” في المرتبة الثانية ثم “التضليل” في المرتبة الثالثة. ◙ تسرُّب المحتوى المسيء من الخطاب إلى وسائل الإعلام لا يخدم المواطن ويؤثر على مسار المصالحة الوطنية والاستقرار وأكد التقرير أن المحتوى ذا التوجه الإخباري هو المحتوى الأعلى تضمنا للإخلالات، بنسبة بلغت 45.71 في المئة وبعدد 698 إخلالا في هذا النوع من البرامج، وحل في المرتبة الثانية المحتوى ذو التوجه السياسي بنسبة 40.28 في المئة بعدد 615 إخلالا، وذلك لكون البرامج السياسية تعد من الأولويات للمؤسسات الإعلامية، حيث لا تكاد تخلو قناة من برامج سياسية، وتغطيات خاصة لآخر التطورات في المشهد السياسي، يليه المحتوى ذو التوجه الأمني أو العسكري بنسبة 3.73 في المئة وبعدد 57 إخلالاً، ثم الاجتماعي بنسبة 3.01 في المئة وهو ما يشكل 46 إخلالاً. ويشير هذا النوع من الإخلالات إلى غياب الموضوعية في غالبية وسائل الإعلام إذ تفتقد للمعايير المهنية واحترام الدقة في تزويد الجمهور بالأخبار والمعلومات التي تمس حياته. كما أن المحتوى الديني لم يخل من الإخلالات، حيث رصد 38 إخلالًا في برامج ومحتوى ذي توجه ديني، ما شكل نسبة 2.49 في المئة من إجمالي العينة. وبالمقابل لم يرصد التقرير أي إخلال في البرامج ذات التوجه الصحي والتعليمي والثقافي، وذلك لقلة حدوث إخلالات في هذا النوع من المحتوى لكونه غير جدلي، كما أن عينة الرصد تركز بشكل أكبر على المحتوى الإخباري والسياسي. وتعتبر فئة الإخلال “السب أو التشهير أو الافتراء أو الإهانة” الأعلى تكرارا، بنسبة 40.41 في المئة وهي تمثل 617 إخلالا، ويعتبر هذا الإخلال جريمة يعاقب عليها القانون الليبي (حسب المادتين 438 و439 من قانون العقوبات الليبي)، كما أن تسرب مثل هذا النوع من الخطاب إلى وسائل الإعلام لا يخدم المواطن، ولا يترك أثرا إيجابيًا في محصلته الثقافية والمعرفية، ويؤثر على مسار المصالحة الوطنية والاستقرار. ويأتي الإخلال المهني “إظهار الأطفال أو الفئات المهمشة أو الضعيفة في صورة سلبية” في المرتبة الثانية بنسبة 14.80 في المئة، حيث تم تسجيل 226 إخلالا، وذلك بسبب اتجاه المؤسسات الإعلامية إلى نشر صور وفيديوهات الأطفال التي يكونون فيها بصورة سلبية، أو بحالة ضعف، ويشمل هذا الإخلال أيضا نشر صور من يتأثرون سلبًا بمأساة أو كارثة وغيرهما. ويقول التقرير إن هذا النوع من الإخلالات رصد بشكل كبير أثناء فاجعة إعصار دانيال بسبب كثافة التغطية التي لم يراع فيها طمس هوية الأطفال والمتأثرين من الإعصار، كما يشمل هذا الإخلال أيضا إظهار المهاجرين غير النظاميين والفقراء وغيرهم من الفئات التي تكون بحالة ضعف. وجاء في المرتبة الثالثة التضليل بنسبة 13.56 في المئة، ويكون هذا الإخلال بنشر معلومات زائفة جزئيًا أو كليًا، وقد يكون بنشر معلومات خاطئة بنية إحداث ضرر، والنيل من سمعة شخص أو كيان، فيما حلت “السرقة الفكرية” في المرتبة الرابعة بنسبة 8.19 في المئة، والتي تتمثل في سرقة المحتوى الإعلامي أو الأخبار، أو التصريحات والمضامين الإعلامية، ونشرها دون الإشارة إلى المؤسسة التي اقتبس منها الخبر. وتتصدر إدارة التحرير قائمة منتجي الإخلالات بنسبة 68.5 في المئة، ويرجع سبب ذلك إلى طبيعة السياسات التحريرية التي تنتهجها بعض الوسائل الإعلامية، إضافة إلى كونها المسؤول الأول عن كل ما يصدر أو يبث أو ينشر من الوسائل الإعلامية، كما أن بعض التقارير والأخبار التي تنشر أو تبث لا يتم فيها الإفصاح عن كاتب التقرير، أو المادة الإعلامية المقدمة، ما يؤدي إلى تسجيلها على إدارات التحرير أثناء الرصد. ويحل في المرتبة الثانية بنسبة 12.18 في المئة “ممثل لحزب أو ناشط سياسي أو مرشح أو خبير”، وهم من المصادر الأساسية التي تنتج الإخلالات ما يرجح أن المؤسسات الإعلامية لا تلزم ضيوفها بمدونة سلوك معينة، أو مبادئ محددة وفق ما يقره القانون والمبادئ المهنية للعمل الإعلامي. ويأتي مقدمو البرامج أو المراسلون في المرتبة الثالثة بنسبة 7.07 في المئة، وهذا يشير إلى عدم الالتزام بالقوانين والتشريعات من قبل بعض مقدمي البرامج والمراسلين أثناء ممارسة العمل الإعلامي، وعدم التزامهم بالمعايير المهنية ومدونة سلوك. أما عن ممثلي المجتمع المدني أو الوسط الفني أو الرياضي، فإنهم يوجدون في نهاية قائمة مرتكبي الإخلالات بنسبة 0.98 في المئة، ما يدل على وجود نوع من الوعي أثناء الظهور الإعلامي. ◙ هذا النوع من الإخلالات رصد بشكل كبير أثناء فاجعة إعصار دانيال بسبب كثافة التغطية التي لم يراع فيها طمس هوية الأطفال والمتأثرين من الإعصار وبالنسبة إلى الجهات المستهدفة بالإخلالات المهنية، فقد جاءت السلطة التنفيذية في المرتبة الأولى بعدد 522 استهدافًا، وهو ما يشكل نسبة 34.18 في المئة، ويرجع السبب إلى كثرة استهداف الحكومات، لكونها مؤسسات خدمية، معنية بتوفير حاجات المواطن، وتتعرض للنقد المستمر بشكل غير مهني أحيانا، الأمر الذي يتحول إلى سب وتشهير وإهانة أو تحريض، ونشر وبث أخبار مضللة عنها في الكثير من الأحيان، لعدم قدرة المنتقدين على الفصل بين النقد وحرية الرأي والتعبير. وجاءت في المرتبة الثانية الفئات المهمشة بعدد 253 إخلالًا، وهو ما يمثل نسبة 16.57 في المئة، وتتمثل الفئات المهمشة في الأطفال القصر أو الفئات الضعيفة التي تتعرض لمأساة أو الأشخاص ذوي الإعاقة وحالات الفقر والتشرد. والمرتبة الثالثة كانت من نصيب السلطة التشريعية بعدد 184 إخلالًا وبنسبة 12.05 في المئة، وتتمثل السلطة التشريعية بالبلاد في مجلس النواب، ولاحظ التقرير أن ممثلي السلطة التشريعية هم من الجهات الأكثر استهدافا بالإخلالات المهنية بعد السلطة التنفيذية كجهات اعتبارية، وهو ما يعطي انطباعا عن طبيعة السياسة التحريرية التي تنتهجها وسائل الإعلام، وتسمح من خلالها بتسرب مثل هذه الإخلالات في خطابها الإعلامي. أما الجهة الأقل استهدافا بالإخلالات المهنية فهي السلطة القضائية ممثلة بأعضاء الهيئات القضائية والنيابة، بعدد 3 إخلالات فقط، وهو ما يشكل نسبة 0.2 في المئة من إجمالي الإخلالات المرصودة . وأوصت الهيئة بضرورة التزام المؤسسات الإعلامية بمدونة قواعد السلوك المهني الإعلامي، وقالت إن على وسائل الإعلام الالتزام بالقوانين الليبية ذات العلاقة بالعمل الإعلامي، وتوعية العاملين فيها بالقوانين ذات العلاقة، لتجنب ارتكاب الإخلالات المهنية أثناء مزاولة العمل الإعلامي. ودعت التوصيات إلى تضمين مواد تعليمية عن التربية الإعلامية، والتحقق من الأخبار والمعلومات الزائفة والمضللة في المناهج الدراسية، لتجنب الانجرار وراء الأخبار المضللة في فترات الأزمات والانتخابات. وحثّت وسائل الإعلام على ضرورة تحري الدقة أثناء تغطيتها للأحداث، والعمل على اعتماد مدققين للمعلومات للحد من تسرب المعلومات المضللة، منادية بتوفير المزيد من الدعم للهيئة حتى تتمكن من الاضطلاع بدورها، وللحد من انتشار خطاب الكراهية والمعلومات المضللة، وكل ما يهدد السلم الأهلي. كما طالبت بدعم المزيد من المؤتمرات وورش العمل والندوات والتدريبات التي تستهدف الصحافيين والعاملين في وسائل الإعلام، لزيادة وعيهم بالجوانب القانونية وأخلاقيات ممارسة العمل الإعلامي، وبالعمل على اعتماد لائحة مجلس التقييم من قبل مجلس الوزراء واستحداث قانون للإعلام يلائم ما يحدث من تطورات ويجرّم خطاب الكراهية والتضليل الإعلامي، وبضرورة التواصل مع المؤسسات الإعلامية وتنبيهها إلى الإخلالات المهنية المرتكبة، وتشجيع المؤسسات الإعلامية الملتزمة بمدونة قواعد السلوك المهني الإعلامي وحثها على الاستمرار في مهنتها.
مشاركة :