مواجهة مباشرة بالتواطؤ وتآكل الردع الأميركي: نجاح سياسة "حافة الهاوية" الإيرانية

  • 4/24/2024
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كشفت المواجهات الأخيرة بين إسرائيل وإيران عن تراجع في هيبة الردع الأميركية وحتى الاسرائيلية، نتيجة سوء إدارة ما تعتبره قيادات الدولتين على أنّها استراتيجية التعامل مع إيران. فهما يبحثان عن مكاسب تكتيكية مقابل خسائر استراتيجية لصالح إيران، جعلت منها قوة إقليمية رغم محدودية قدراتها العسكرية. فقد نجحت سياسة "حافة الهاوية" الإيرانية القائمة على تخطّي الخطوط الحمراء ومن ثم التراجع بعد تحقيق مكاسب سياسية ضدّ أميركا وحلفائها. وما كان هذا لينجح لو لم يتآكل الردع الأميركي في السنوات الأخيرة. تجتمع النظريات العسكرية على أنّ الهدف الأساسي من الردع هو ثني الدولة المعادية عن اللجوء الى أي عمل عسكري ضدّها، وتنفيذ خطوات تقنعها بأنّ ثمن أي تحرك عسكري سيكون أكثر تكلفة من أي مكسب يمكن أن تحققه. ويجب على الدولة الرادعة أن تُظهر قدراتها العسكرية وتوصل رسائل لا لبس فيها عن نيتها توجيه ضربة مدمّرة في حال تعرّضت لأي هجوم عسكري، وبأن تكون مقنعة بتهديدها ومستعدة لتنفيذه إذا ما استدعى الأمر ذلك. وأفضل مثال على سياسات الردع الناجحة، كان ما قامت به باكستان مؤخّراً، حين قامت بردّ عسكري خلال 24 ساعة على استهداف إيران لأراضيها، واستنفرت قواتها وهدّدت بمزيد من الضربات في حال أعادت طهران الكرّة. فتراجعت القيادة الإيرانية فوراً وعادت للغة المهادنة والدبلوماسية لمنع التصعيد. وأخذ موضوع الردع العسكري بعداً إضافياً مع دخول الأسلحة النووية الساحة الدولية، حيث عمدت القوى العظمى إلى اقتناء ترسانة جيدة مع القدرة على توجيه ضربة نووية ثانية (انتقامية) من غواصاتها النووية وقاذفاتها، والمحافظة في الوقت ذاته على قدرات عسكرية تقليدية متقدّمة. فبعد توصل قيادات الدول النووية إلى قناعة بأنّها لا تستطيع الانتصار في حرب ضدّ دولة نووية أخرى، وبأنّ لا فائز حقيقياً في حرب نووية نتيجة حتمية فناء الطرفين. ساد الردع المتبادل وتراجعت الحروب المباشرة بين هذه القوى، وتحولت صراعاتهم إلى حروب بالوكالة. وأفضل مثال على نجاح سياسات الردع النووي كان ما فعلته الولايات المتحدة خلال ما يُعرف بأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، عندما قام الاتحاد السوفياتي بنشر صواريخ بالستية نووية في كوبا قبالة السواحل الأميركية، ما اعتبرته واشنطن تهديداً وجودياً، وأعطت إنذاراً لموسكو بسحب الصواريخ خلال أيام قليلة، أو أن تواجه ضربة نووية استباقية. وحركت واشنطن قاذفاتها وأساطيلها وصواريخها البالستية، ما دفع القيادة السوفياتية للتراجع في آخر لحظة وسحبت صواريخها من كوبا. وتتجنّب الدول غير النووية عادة أي صراع عسكري مع دول نووية، لأنّها تدرك أنّ تطور النزاع بشكل كبير قد يؤدي لتعرضها لضربة نووية. فقيادات هذه الدول لا تزال تذكر ما حدث في مدينتي هيروشيما وناكازاغي بعد تعرضهما لقصف ذري أميركي أدّى الى استسلام اليابان وانتهاء الحرب العالمية الثانية. والدول التي كانت تتجرأ على مواجهة قوى عظمى نووية كانت هي تحارب بالوكالة عن قوة نووية أخرى، أو تحاول منع هذه القوة العظمى من احتلال أراضيها، كما حدث في فيتنام والغزو السوفياتي لأفغانستان. وفي إطار الصراع بين إيران والولايات المتحدة والذي بدأ منذ الثورة الإسلامية عام 1979، فإنّ واشنطن خاضت مواجهتين عسكريتين مباشرتين مع طهران. الأولى عام 1988 عندما اصطدمت فرقاطه أميركية بلغم بحري إيراني قرب مضيق هرمز، فردّت القوات الأميركية فوراً بتوجيه ضربات عدة تسببت بإغراق 5 سفن حربية إيرانية من بينها فرقاطة وإسقاط مروحية وتدمير منصتين بحريتين للحرس الثوري. لم تردّ إيران حينها، وتجنّبت منذ ذلك اليوم أي احتكاك عسكري مباشر مع أميركا. لكن المواجهة المباشرة الثانية أخذت شكلاً آخرَ، وبدأت عندما أسقطت طهران في حزيران (يونيو) 2019 طائرة مسيّرة أميركية كبيرة للمهام الاستراتيجية كانت تحلّق فوق مياه الخليج قبالة السواحل الإيرانية. قرّر الرئيس الأميركي حينذاك دونالد ترامب أن يلغي في الدقائق الأخيرة هجوماً جوياً على قواعد إيرانية بحجة أنّ الطائرة لم تكن مأهولة ولم يسقط أي ضحايا أميركيين، وبالتالي لا داعي لردّ سيؤدي إلى حرب. هذه كانت إشارة ضعف تلقفتها القيادة الإيرانية. الإشارة الثانية كانت بعد اغتيال الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني في مطلع عام 2020، حينما قرّر الرئيس ترامب أن ينفّذ سياسة غير اعتيادية والتعامل مع التهديد الإيراني بالردّ بعقلية رجل الأعمال بعيداً من الاستراتيجية العسكرية. فتوصل إلى اتفاق مع طهران سمح لإيران بقصف قاعدة جوية أميركية في العراق في وقت محدّد يكون فيه الجنود الأميركيون داخل الملاجئ. وشهد العالم شيئاً غير مسبوق، حيث قصفت دولة إقليمية قاعدة لقوة عظمى نووية من دون أي ردّ من الأخيرة، بل وبرضاها. ما حدث يومها يمكن أن يوصف بأي شيء إلّا بردع عسكري. فالقيادة الإيرانية سمعت ترامب يتحدث بشكل متكرّر عن عدم نيته الدخول في حرب جديدة في الشرق الأوسط، وطبّق ذلك عندما أوقف الردّ على إسقاط إيران للطائرة المسيّرة قبل 6 أشهر. وبما أنّه في عام انتخابات وقام بعرض سيناريو الضربة للقاعدة من دون خسائر، قبلته طهران واستغلته لتثبت لجمهورها مجدداً أنّها قوة إقليمية تنافس القوى العظمى، وكان هذا على حساب هيبة الردع الأميركي. فلو كان الردع الأميركي عند اغتيال سليماني مقنعاً لما تجرأت طهران حتى للإيحاء بأنّها تنوي الرد، كما كان موقفها في المواجهة الأولى بين الطرفين قبل 32 عاماً. وكان لتآكل الردع الأميركي أمام إيران تأثيراً سلبياً على وضع حلفاء أميركا في المنطقة بشكل عام والردع الإسرائيلي بشكل خاص. فإيران تدرك مدى عمق العلاقة الاستراتيجية بين أميركا وإسرائيل وبالتالي تعي أنّ إسرائيل لن تدخل في حرب معها من دون أن تكون الولايات المتحدة إلى جانبها. فمنذ اللحظة التي قصفت فيها إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق وقتلت 7 من كبار قادة الحرس الثوري، بدأت اتصالات واشنطن لإقناع طهران بعدم الرد والبحث عن سيناريو لصفقة تمنع نشوب حرب، وتتضمن السماح لإيران برد مدروس لا يوقع خسائر كبيرة. لكن إيران استفادت من الأمر عبر شن هجوم واسع، أبلغت واشنطن عن توقيته، ما مكّن أميركا وعدد من حلفائها من توفير قدرات عسكرية إضافية، سمحت للدفاعات الإسرائيلية بصدّ أكثر من 90 في المئة من الصواريخ والمسيّرات الإيرانية. وضغطت أميركا على إسرائيل لتمنع الرد بحجة عدم سقوط إصابات نتيجة الهجوم الإيراني، وعندما أصرّت إسرائيل على الرد حفاظاً على هيبة ردعها، اختارت هدفاً واحداً، حيث قصفت منظومة الدفاع الجوي لمنشأة نطنز النووية لإظهار قدرتها على اختراق الدفاعات الإيرانية وضرب أهداف استراتيجية. لكن تل ابيب لم تتبن الهجوم رسمياً، لتسهّل على طهران تسويق روايتها محلياً بأنّه لم يكن هناك أي هجوم من الخارج، بل هو حدث أمني داخلي، ولا داعي للردّ. المعادلة التي كرّستها السياسة الأميركية تجاه إيران هي تجنّب المواجهة المباشرة، وفي حال حصولها السعي للاتفاق مسبقاً على سيناريو الضربة العسكرية لتجنّب الخسائر، تفادياً للانزلاق نحو حرب واسعة. وهذه معادلة قائمة حالياً بين إيران وإسرائيل. يبدو أنّ أسلوب اللعب على حافة الهاوية قد خدم طهران بشكل ناجح في مواجهة أميركا واسرائيل. كما أنّ المسافة الكبيرة التي تفصلها عن إيران وكبر مساحة الأخيرة تمنع إسرائيل من توجيه ضربة استباقية فعّالة ضدّ قدراتها العسكرية. هذا في وقت تستمر حروب إيران بالوكالة ضدّ إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائها في أراض عربية، وتخلّف آلاف القتلى ودماراً هائلاً. وقد يقول البعض إنّ سياسة أميركا تمنع توسع الحرب إقليمياً وتعزز دور الدبلوماسية، الّا أنّها حتى الآن لم توقف برنامج إيران النووي، ولم تمنع توسع نفوذ طهران في الشرق الأوسط، ولم تعد قائمة على هيبة ردع عسكري حقيقي ومقنع.

مشاركة :