القاهرة: جمال القصاص تحولت مولات مصر الكبرى إلى مقصد سياحي، ووجد الكثير من الأسر المصرية في أجوائها نوعا من السياحة الداخلية، عوضا عن زيارة المنتجعات السياحية الساحلية، والمتاحف والآثار الفرعونية، المترامية في مدن بعيدة عن العاصمة القاهرة، وأصبح السفر إليها سواء الأقصر وأسوان أو ومدن أخرى بصعيد مصر يواجه صعوبات بعد حظر التجوال المفروض في البلاد قبل نحو ثلاثة أشهر، تحت وطأة الاضطرابات السياسية، وهو ما أدى إلى تراجع معدلات السياحة الوافدة لهذه المدن. ساعد على ذلك أن هذه المولات تجمع بين متعة التسوق والترويح معا، فتضم بجانب الأسواق المتنوعة عددا من المرافق الرياضية والترويحية والقاعات المجهزة بأحدث وسائل الترفيه وممارسة فنون الرياضة، سواء للكبار أو الصغار، كما أنها توفر جوا من الهدوء والرقي للزوار، ويوجد بها الكثير من المطاعم والمقاهي التي تناسب كل الطبقات، بالإضافة إلى أن معظمها يتنافس على تقديم خدمة مميزة للجمهور، تبدأ في الأسعار، ومثلها في أسعار الملاهي وعناصر الترفيه، وأيضا الحصول على جوائز قيمة، وهو ما يشكل عنصر جذب شيقا لهواة الترويح العابر على مدار اليوم الواحد، بعيدا عن كلفة وأعباء السفر للشواطئ والصحاري. وشهدت مصر في السنوات الأخيرة تسارعا في وتيرة بناء هذه المولات التجارية، على أحدث النظم والمقاييس العالمية، حيث تمثل - بحسب اقتصاديين - مجالا خصبا للربح، كما تشكل نوعا من الاستثمار الأمن القابل دائما للنمو، وسط توقعات ضعيفة، تكاد لا تذكر لهامش الخسارة. ولعبت فكرة السوق المجمع، وكثرة توافر البدائل من السلع والمنتجات، دورا مهما في إغراء أغلب المصريين بالتسوق في هذه المولات، خصوصا بعد سنوات طويلة، تعودوا فيها على الأسواق الشعبية، كمنفذ حيوي لشراء احتياجاتهم بأسعار رخيصة أو معقولة، لكن هذه الأسواق الشعبية كان يغلب عليها نمط العشوائية، وتفتقر إلى عوامل النظام والنظافة والأمان، فضلا عن أن معظمها غير دائم، حيث ترتبط بيوم معين في الأسبوع. ورغم انتشار المولات الكبرى في وسط العاصمة القاهرة وضواحيها مثل مدينة نصر والمعادي، وأيضا معظم المدن المصرية، فإن زخمها الحقيقي أو ثقلها التجاري والسياحي يكمن على نحو خاص في المدن الجديدة المترامية على أطراف العاصمة، وعلى وجه الخصوص في مدينة السادس من أكتوبر، حيث تتدفق على هذه المولات حزمة من الأموال والاستثمارات الشرسة لرجال أعمال مصريين وعرب، تقدر بمليارات الدولارات، في ظل تسهيلات تقدمها وزارة الصناعة والتجارة لتنشيط التجارة الداخلية، وتنويع مصادرها، من خلال استقطاب مؤسسات تجارية كبيرة ذات مصداقية وسمعة على المستوى الدولي والعربي والمصري. زاد من إغراء الترويح والتسوق في هذه المولات، وجود عدد من دور السينما الراقية بالكثير منها، تحرص دائما على عرض الأفلام الجديدة بالسوق، بالإضافة إلى الأفلام الأجنبية، وهو ما جعلها منتدى لسهرات الأهل والأصدقاء، ولعشاق الفن السابع أيضا. ومن الأشياء اللافتة في هذا المنحى الترويحي الجديد، أن تصادف أفواجا من تلاميذ المدارس، يتجولون على المحال، في صحبة المشرفين عليهم، ويرتادون أماكن الترفيه والملاهي بشغف طفولي لا يخلو من الشقاوة المحببة أحيانا. ومثلما تقول عبير ندا، مسؤولة بإحدى المدارس الخاصة بالحي المتميز بضاحية 6 أكتوبر بالقاهرة: «فكرنا أن نقوم برحلة ترويحية للأطفال تحفزهم على مواصلة دراستهم، وأمام ما يمر به البلد من ظروف أمنية وسياسية مضطربة، توصلنا إلى أن نقوم بزيارة لأحد المولات الشهيرة القريبة من المدرسة، خصوصا أنه تتوافر به وسائل متنوعة وحديثة للترفيه. وفوجئنا بأن الفكرة لاقت قبولا لدى قطاع كبير من التلاميذ، بعد أن أمضوا يوما ممتعا، تخلله تناول الغداء في أحد المطاعم، الذي قدم لنا وجبة لذيذة بأسعار مخفضة، لم نكن نتوقعها». تضيف عبير: «أمام هذا النجاح وبناء على رغبة التلاميذ، قررت إدارة المدرسة تكرار الرحلة على مدار العام الدراسي. فالمهم أن يلتقي التلاميذ خارج قاعات الدرس ويتعرف بعضهم على بعض في فضاء أرحب، بعيدا عن قيود وأعباء الدراسة. ويشبه طارق ناصف، وهو شاب في الثلاثين، مسؤول العلاقات العامة بأحد المولات الكبرى بمدينة 6 أكتوبر، فكرة المول المتنوع بـ«بيت العائلة» الكبير، الذي ينهض على تلبية حاجات الصغير والكبير، بل أيضا أصحاب الاحتياجات الخاصة، مشيرا إلى أن هذه النظرة هي التي تحكم الفلسفة التجارية لمعظم المولات الكبرى. ويقول: «نحن نحاول دائما أن يكون الزبائن معنا، نتواصل معهم في استبيانات استطلاع رأي، نعرف منها ما الذي يعجبهم في المول في كل المجالات الترويحية والتسويقية، واقتراحاتهم من أجل تنميته وتطويره. كما نهتم قبل كل شيء بمعرفة الجوانب السلبية، التي لا تعجبهم، ونعمل على إصلاحها أو تلافيها أو سد النقص في عنصر ما». يضيف طارق: «منذ فترة كان ثمة مطالب بزيادة المساحة الخضراء في محيط المول، لأنها تشكل رئة طبيعية للزبائن.. وبالفعل قمنا بذلك، وأضفنا مجموعة من الكراسي المريحة للحديقة، كما أنشأنا مجموعة من البرجولات الأنيقة، للجلسات العائلية، ونسقنا مع المقاهي ومطاعم الوجبات السريعة بالمول بتلبية طلبات الزبائن والمرور عليهم، كخدمة مجانية، بلا أي مقابل مادي. بالإضافة إلى مجموعة من النافورات الراقصة، تضفي على المكان داخل المول مسحة جمالية جذابة، خصوصا في المساء». ويضمر عمر راجح، وهو كاتب صحافي على مشارف الأربعين، محبة خاصة لجو المول، ويقول: «آتي إلى هنا معي اللابتوب وكاميرا صغيرة، ويساعدني إيقاع المول العابر السريع في التواصل بحميمية مع العمل والأهل والأصدقاء، كما يساعدني في اكتشاف الكثير من الزوايا واللقطات، التي سرعان ما تتبلور في الكتابة، أحيانا على شكل اسكتشات صحافية خاطفة، وأحيانا على شكل قصص قصيرة، مفعمة بحيوية الحركة، في مشهد الحياة اليومي المثقل بالكثير من الهموم والطموحات». يضيف راجح: «لي مكان خاص بمقهى بالمول، جوه هادئ ومشمس ويوفر لي فضاء نفسيا لطيفا، خصوصا في الصباح. والعاملون في المقهى حريصون على هذا، وأصبحت بيننا عشرة ومودة، فحين آتى يخفضون صوت التلفاز، أو يبثون موسيقى كلاسيكية هادئة، تغمرني بالدفء والمحبة. ويؤكد راجح أن هذا الجو أصبح نادرا، فمعظم المقاهي بوسط البلد تعج بالصخب والضجيج، وبالكاد تسمع صديقك الجالس معك على الطاولة». ويروي راجح أنه كثيرا ما يصطحب أسرته الصغيرة إلى المول، خصوصا في أيام العطلات، وحينما ينصرفون يشعرون بأنهم أمضوا وقتا طيبا، وأن الزيارة كانت بمثابة رحلة جميلة، ويطلبون منه أن تتكرر، على الأقل مرة كل أسبوع. وعن الكساد السياحي الذي تشهده البلاد، يرى راجح أن هذا سيستمر لفترة طويلة، خصوصا أن الظروف التي تمر بها مصر حاليا ليست استثنائية أو عارضة، لأن هناك عطبا أصاب العقل المصري، أثر بالتالي على الوعي والوجدان العام، خصوصا في أوساط الشباب، والذي أصبح ينظر قطاع كبير منهم للسياحة ومشاهدة التماثيل على أنها حرام، وإصلاح هذا العيب سيأخذ وقتا، لأنه - على حد قوله - لا يحتاج فقط إلى حلول أمنية، بل إلى علاج شامل تتضافر فيه كل قوى المجتمع الثقافية والسياسية والدينية والاجتماعية بوعي جاد، وفي إطار من المسؤولية المشتركة.
مشاركة :