لقد تناقلت الحضارات البشرية القديمة الأساطير وقصص الآلهة والأفكار الإنسانية حول الموت والحياة والفقد والعوالم الأخرى، ولعل الرثاء أكثر ما جمع بين هذه الحضارات، وهو أسلوب شعري نجده في الترانيم الطقوسية وفي التعامل مع الموت كفكرة أو حدث، وتناقل الشعراء الرثاء لقرون قبل أن يبتعدوا تدريجيا عنه وكأنهم ينفصلون عن هموم البشر، بينما اختار بعضهم إحياء هذه المرثيات على غرار الشاعر السوري نوري الجراح. بدأت علاقة الإنسان مع الأدب في زمن بعيد نسبيا عن ذاك الزمن الذي فيه صار نظم الشعر يجري على وفق قوالب وتقاليد، بسببها اندفع أرسطو إلى التنظير فقعّد قوانين الشعر. ولم تتمايز في هذه العلاقة البدئية أدبية الحكايات عن أدبية الأشعار حيث التخييل هو سمة هذا النشاط الذي فيه آمن الإنسان بوجود كائنات ميتافيزيقية في شكل آلهة لها قوى خارقة تؤثر في حياته، فمارس طقوسا خرافية تصاحبها أقوال خرافية، وقصده التقرب إلى هذه الآلهة وإشباع حاجته النفسية إلى العيش بسلام فلا يخشى الطبيعة بل يطمئن إلى ظواهرها وموجوداتها الحية وغير الحية الواقعية وغير الواقعية كالوحوش والأفعوانات والسعالي وغيرها. العمق الحضاري للمراثي استلهام الحزن وتصوير لوعة الفقد استلهام الحزن وتصوير لوعة الفقد التقرب من الآلهة هو الذي جعل خطاب الإنسان لها بكلام أدبي يختلف عن الكلام المتداول واليومي. ومن خلاله بث الإنسان شكواه وهمومه إلى الآلهة مظهرا لها التودد والتذلل والاستعطاف والمناجاة والترجي متوسلا إياها بمشاعر الأسى والاسترحام. ولقد رافقت هذا الخطاب التوسلي طقوس ومراسيم إنشادية انتحابية وفجائعية، كانت الحكاية الخرافية مصدرها ومن مجموع الخرافات تشكلت الأساطير، ومنها تشكلت الملاحم مستقلة عن الشعر الغنائي. ولكن الرثاء ظل جزءا منهما يتغلغل فيهما بشكل أو بآخر. ومنذ ذلك الوقت صار للأدب بعدان: الأول ثيمي يتمثل في تراجيديات التأسي والبكاء، والبعد الثاني صوتي يتمثل في ترانيم الإنشاد وإيقاعيات الابتهال. ومن يعد إلى الأدب السومري فسيجد مراثي سردية وشعرية ومنها مرثية أور الشهيرة ومراثي ديموزي. وكان لاستقرار تقاليد هذا التلازم الروحي بين الإنسان والأدب من جهة، والأدب والرثاء من جهة أخرى أن غدت آداب الحضارات القديمة ولاسيما حضارة وادي الرافدين مؤثرة في الأقوام المجاورة لأراضيها أو المهاجرة إليها. فتأثرت الأقوام السامية ومنها العرب بترانيم بابلية وأناشيد وثنية ومرثيات دينية. وفي عصر ما قبل الإسلام صار الرثاء عند العرب ضربا شعريا ينبث في قصيدة الغزل والمديح والحماسة وبتقاليد خاصة، كأن يفتتح الشاعر قصيدته مستنجدا أو متذللا بمطلع طللي يبكي فيه أو يتفجع أو يشكو أو يتوسل أو يتخلص خاتما قصيدته بأبيات تراجيدية فيها بكاء وتفجع والتياع وتوجع. وليست المعلقات وحدها التي انبثت داخلها المراثي، بل كذلك القصائد القصيرة والمقطعات الشعرية المتفرقة التي فيها نلمس آثار الرثاء واضحة. وعلى طول هذه المراحل التاريخية التي قطعتها المرثية الشعرية كانت المرأة هي الأكثر إبداعا فيها، بسبب عاطفيتها الأنثوية النابعة من تركيبتها التطبعية الاجتماعية، ومما وقع عليها من حيف ذكوري جعلها الضحية التي عليها الطاعة والاتباع. فكان الشعر سلاحا به تواجه ظلم الرجل وتعسفه. وهكذا برعت الشاعرة القديمة في المراثي ونقل التاريخ لنا مدونات رثائية لنساء من بلاد سومر وبابل والشام ومصر والجزيرة العربية كن يترنمن بها في المعابد والقصور والبيوت، لكن ذلك لم يجعل المراثي غرضا مستقلا بل كانت مبثوثة في تضاعيف القصيدة إلى ان ظهرت الخنساء كشاعرة تخصصت بنظم المراثي وعلى يديها صار الرثاء غرضا قائما بنفسه. الشاعرة القديمة برعت في المراثي ونقل التاريخ لنا مدونات رثائية لنساء من بلاد سومر وبابل والشام ومصر والجزيرة العربية ولهذا السبب خلد اسمها في ديوان الشعر العربي الذي حفظ لها قصائد كثيرة في رثاء أخيها صخر تعد من عيون الشعر العربي. ومع تقدم الحضارة الإسلامية تضاءلت استقلالية قصيدة الرثاء ولم نعد نرى، على مستوى الشعر الرسمي، شعراء متخصصين في المراثي ومن ثم عادت من جديد إلى الانبثاث داخل قصائد الغزل والهجاء والمديح ولكن على المستوى الشعبي بقيت المراثي على استقلاليتها التي عرفتها في الجاهلية واستمرت الذاكرة الجمعية تنقل المراثي عبر الأجيال حيث الأولوية في نظمها للنساء الشواعر. واستمرت هذه الوتيرة في التباين بين المراثي الرسمية والشعبية في العصر الحديث، فكانت القصيدة الرثائية لا تنظم إلا في مناسبات خاصة وبإخوانية كتأبين شخصية أو استذكار حدث أليم، حتى إذا وصلنا إلى زماننا الراهن وجدنا افتقارا في التخصص بنظم المراثي. ولعل للنقد الأدبي دورا في ذلك من خلال منهجياته التي جزأت النظر إلى القصيدة وسلطت الأضواء على المدح والهجاء والغزل أكثر من الرثاء، كما اعتنت بالشعر الرسمي أكثر من الشعر الشعبي، فضلا عن إيمان بعض النقاد بمسلّمات وحيثيات تتعلق بغنائية الشعر العربي منها أن الإنشاد يعني الطرب والفرح ومن ثم لا إنشاد في الرثاء أي أن الإنشاد شيء والغنائية شيء آخر، وان المدح يدر الهبات من الحكام. وهكذا ابتعد الشعراء عن تجريب نظم المراثي أو استعادة جذورها الأسطورية والملحمية الغابرة باستثناء نفر قليل اظهروا ولعا بالمراثي السومرية والإغريقية والآرامية، ومنهم الشاعر نوري الجراح الذي استهوته المراثي القديمة بكل ما فيها من تراجيدية وملحمية، فعمل على تقليص المسافات الزمانية بين الماضي والحاضر في خلطة إبداعية ذات مستويين جمالي وموضوعي. الصراع الأزلي المراثي سير إنسانية متوارثة (لوحة للفنان سمير الصفدي) المراثي سير إنسانية متوارثة (لوحة للفنان سمير الصفدي) إذا كان في هذا التجريب إحياء لشعر المراثي فان فيه تدليلا أيضا على ما في المراثي الغابرة من ثراء متدار ومندثر. مما نجده في ديوان نوري الجراح “الأفعوان الحجري سيرنادا شرقية” (2022) وفيه يصنع الشاعر مرثية عصرية بناء على سطر آرامي يعود إلى زمن التدمريين وقصده التعبير عن مآسي إنسان الشرق الأوسط وفي مقدمتها مأساة النزوح والتهجير واللجوء التي معها وجد الشرقي نفسه غريبا في رحلة اللاعودة التي تمثلها رحلة “برعتا” الخاسرة إلى قلب الجزيرة البريطانية المحتلة من روما، لإنقاذ الفتاة السلتية المسترقة وانتزاعها من قيد العبودية وتسميتها ريجينا/ أو “الملكة” باللاتينية، ريجينا التي وقع في حبها وكانت سببا في شقائه وألمه الروحي. وقد صور الشاعر نوري الجراح موضوعة الفقد تارة بلسان البطل العاشق متأسيا على حاله ونادبا حظه العاثر، وتارة أخرى بلسان المعشوقة التي عبرت بمأساوية عن مواجدها إزاء الحبيب باكية بحرقة فراقهما وهما في ريعان عمره. وبتعدد المنظورات التي من خلالها حاكى الشاعر مأساة العاشق والمعشوقة غدت للقصيدة إيقاعية جنائزية، تذكرنا بإيقاعيات قصائد نازك الملائكة في ديوانيها “شظايا ورماد وقرارة الموجة” وفيهما اتخذت من الخنساء ملهمة، وهي وإن لم تسمّها بالاسم لكنها نادتها بالشاعرة، شاكية وملتاعة وباكية في حضرتها، مستمدة منها الطاقة على التأسي والانتحاب التراجيديين. ولقد اعتمد الجراح في استلهام الحزن وتصوير لوعة الفقد على مرجعين احدهما غربي (لاتيني) والآخر شرقي (آرامي). الأمر الذي حوّل شعره إلى مرثية هي عبارة عن قصيدة واحدة تحكي قصة الصراع الأزلي بين الخير ممثلا ببرعتا التدمري وريجينا (السلتية الكتفلانية) وبين الشر ممثلا بالأفعوان الذي نجح في التفريق بينهما. وكان لاستعمال أسلوب التكرار في بناء القصيدة/المرثية أثر في توكيد أزلية ذاك الصراع كما ساهم التناوب بين “النثري السردي والغنائي الإنشادي” والإشارات القبلية والبعدية والحواشي التوضيحية، في توكيد دلالة اللاانتهاء أو اللازوال. فكانت مأساة برعتا سمفونية من اللواعج والشجون التي لا تعيد مفقودا ولا تهدي ضائعا، وهو ما عبر عنه تكرار أداة الشرط “لولا” التي في جوابها الامتناعي تدليل على برعتا وهو يواجه حقيقة خسارته ريجينا إلى الأبد. وتبدأ المرثية به ساردا يندب نفسه كابن لربة الحب والعدالة اترعتا التي ما مدت يد المساعدة إليه، مناديا حبيبة رحلت ولن تعود: نوري الجراح صور موضوعة الفقد تارة بلسان البطل العاشق متأسيا على حاله ونادبا حظه العاثر، وتارة أخرى بلسان المعشوقة نوري الجراح صور موضوعة الفقد تارة بلسان البطل العاشق متأسيا على حاله ونادبا حظه العاثر، وتارة أخرى بلسان المعشوقة لَوْلَا أَنَّكِ هُنَا، لَوْلَا أَنَّنِي تَرَجَّلْتُ عَنْ هَذَا السُّوْرِ المُتَلَوِّي كأُفْعُوانٍ حَجَريٍّ (….) لَوْلَا أَنَّكِ هُنَا، لَوْلَا أَنَّ صَوْتَكِ رَدَّدَ اسْمِيَ فِي هَذَا الصَّقْعِ مِنَ الأَرْضِ. وما بين الضباب وصلابة السور الأفعواني واجه برعتا أرض القيصر البربرية كبطل مغوار: أطوف بحصاني/ يُوَتِّرُونَ الأَقْواسَ فِي الحُصُونِ والأَبْرَاجِ، ويَمُوجُونَ عَلَى عَرَبَاتٍ تَحْمِلُ الدُّرُوعَ والحِرَابَ والرَّاياتِ. لكن البطولة ما أسفرت سوى عن نواح إنشادي، يحكي مرارة العشق وفداحة الخيبة التي مني بها وهو يؤمل نفسه لقاء ريجينا، نادما على وصوله إلى هذه الجزيرة، مسترجعا زمنا كان فيه في سلام وطمأنينة مقارنا ذلك كله بحاله الآن وقد صار جثة هامدة: أَنْتَ يَا مَنْ تَقِفُ لِتَقْرأَ كَلِمَاتِيَ المُرْتَجِفَةِ مِنَ البَرْدِ؛ هَلْ وصَلْتَ إِلى هُنَا، مِثْلِي، عِلَى مَرْكَبٍ مِنْ خَشَبِ الْأَرْزِ المَجْلُوبِ مِنْ جِبَالِ نُوْمِيدْيَا، أم عَلَى طَوْفٍ أَلْقَتْ بِهِ سَفِيْنَةٌ قُرْبَ شاطئٍ فِي بَحْرِ الشَّمَالِ؟ وَلَئِنْ تَرَكْتُ سَيْفِيَ عِنْدَ النَّهْرِ، فَلِيُبَارِكَ الْبَعْلُ خُطْوتِي إِلَى البَيْتِ. وعكست المونولوجات الداخلية مشاعر برعتا وهو يقص حكاية يتمه بعد موت محبوبته راثيا ريجينا ومن خلالها راثيا نفسه مناجيا حاله ومعددا محاسن معشوقته التي بسببها خاض رحلته نحو المجهول بحثا عن الحرية وهو ما كان جلجامش قبله قد قاساه في رحلته بحثا عن المعرفة. والمعرفة حرية والحرية معرفة وكلاهما تفضيان إلى اللانهاية التي اتضحت في تكرار عبارة “لولا أنك هنا”: كيف اصطدت قلبي/ لمجرد أن عينك الحوراء رمت بؤبؤها في عيني/ …/ لولا أنك هنا/ لولا أنك الزهرة التي تفتحت في غسق / لولا أنك السماء.. لولا أنك هنا .. لولا لأنك الزهرة/ لو كنت استطعت لكنت ترنمت معي القصيدة. ويتحول من لولا إلى لو متمنيا ما لا يمكن حصوله فتزداد لوعته قائلا بحرقة: لَوْ كُنْتُ “هِرَقْلَ”، وكُنْتُ فِي مُعْتَرَكٍ عَلَى عَرَبَةٍ تَضْطَرِبُ وَقَوْسُ قُزَحٍ يُؤَرْجِحُ الضَّوْءَ هَلْ كُنْتُ سَأَتَجَرَّأُ عَلَى حِارِسِ المَيَاهِ، أَمْ كُنْتُ سَأَغُضَّ الطَّرْفَ عَنْهُ، وَأَتْرُكُهُ يَتَوَارَى فِي غَيَابَةِ الْبِئْرِ؟ (ص 29). دراماتيكية الرثاء بتقدم القصيدة تزداد دراماتيكية الرثاء قوة وبمشاهد تصويرية فيها برعتا يتألم حزنا على حاله لا في منام أو غيبوبة بل وهو يواجه الأفعوان وجها لوجه حتى إذا انشقت السماء وانقض النسر على الأفعوان كان الأوان قد فات: كُنْتِ مُسَجَّاةً على أَوْرَاقٍ نَدِيَّةٍ مِنْ شَجَرِ الْحُوْرِ، والسَّبْعَةُ اليَافِعُونَ يَحْرُسُونَ نَوْمَكِ . *** لا شَيءَ يُشْبِهُ صَمْتَ رَقْدَتِكِ سِوى صَمْتِ الهَواءِ في رئَةِ الغابةِ لما يَتَفشَّى الضَّبابُ ويَلْتَهِمُ الأَشْجارَ التي سَمَقَتْ وينزل ليَغْمِرَني، فلا أَعُود أَرَى قَدَمِي، ولا خطوتي على جليدِ أَيّامي. وهنا يصل برعتا إلى أعلى درجات اليأس والانتحاب مخاطبا ريجينا بلا جدوى، فإذا بصوتها يخرج من مرقدها الحجري مخاطباً برعتا: الشعراء ابتعدوا عن المراثي أو استعادة جذورها الأسطورية والملحمية الغابرة باستثناء قليلين استعادوا المراثي السومرية والإغريقية والآرامية صوتُكَ الذي أَقْلَقَ نَوْمَ الآلهةِ أَنْهَضَني مِنْ رَقْدَتي…، صَوتُكَ يَكسرُ العَتْمَةَ، ويَنْزلُ ليَطْلبَ يَدِي مِنْ رُخامِ المَوت. وتقص رجينا حكاية اضطهادها ومن ثم رحيلها عن العالم: أَنا المَرأَةُ الَّتي اخْتَطَفَها النَّسْرُ مِنَ الغابَةِ، ولمَّا رأَتْها عَيْناكَ في ذلكَ النَّهارِ أَهْدَيتَها الهَضَبَةَ والنَّهْرَ والسَّمَكَةَ الهَارِبَةِ. ويرد برعتا متسائلا: هَلْ كَانَ يُمْكِنُ لِي أَنْ أَكُونَ، لَوْلَا أَنَّكِ هُنَا، يَا رِيْجِيْنَا؟ لَوْلَا أَنَّنَّي هِبَةُ اللَّاتِ لِرُوحِ الغَابةِ، وأنت مَرَحُ الضَّوءِ بَعْدَ طَيْشِ الغَزَالةِ؟ وفي الختام تعود القصيدة من حيث بدأت، والبطل التدمري يبكي على رحلة اللاعودة، محاربا الأفعوان حارس الماء. ولا يخفى ما في دائرية هذا البناء الشعري للمرثية من تأثر بملحمة جلجامش سواء في الرحلة الأبدية إلى المجهول أو في الأفعوان الذي يذكرنا بخمبابا حارس الغابة أو في تبعات موت ريجينا التي تشابه تبعات موت أنكيدو.
مشاركة :