11 مليون وثيقة، و400 صحفي، و140 سياسياً ورجل أعمال ونجوم فن ورياضة، والأكبر في التاريخ. تلك هي عناوين الفضيحة العالمية الجديدة التي فاجأت العالم تحت عنوان (وثائق بنما)، وهي وثائق تتحدث عن ايداع أموال في ملاذات مصرفية آمنة تهربا من دفع الضرائب من خلال شركة موساك فونسيكا في بنما. وقيل في وسائل الاعلام إنها أكبر عملية تسريب بيانات في العالم متفوقة على تسريبات ويكيليكس الشهيرة. الكتاب يغطي عدة موضوعات من أبرزها العلاقة بين الصحافة والتكنولوجيا وتأثير التطور التقني على وسائل الاعلام التقليدية، والموضوعية، والشفافية، والاستقلالية، وصحافة التحقق، وحقوق ومسؤوليات المواطنين. وثائق بنما هي نتاج عمل شبكة صحافية قدمت تجربة فريدة في عالم الصحافة تمثل في التعاون المهني بحثا عن الحقيقة. هذه القضية ذات جوانب متعددة قانونية وسياسية واقتصادية، لكنها تطرح للنقاش أيضا دور الاعلام ومسؤولية الصحافة تحديدا وعلاقتها بالمجتمع والغرض من الصحافة، ومفهوم الحرية والموضوعية. تزامن نشر هذا الخبر مع قراءتي لكتاب اقتنيته مؤخرا من معرض الرياض بعنوان (عناصر الصحافة. ما الذي ينبغي أن يعرفه الصحفيون وما الذي ينبغي أن يتوقعه الجمهور) من تأليف بيل كوفاتش، وتوم روزنستيل، ترجمة لميس اليحيى، اصدار الأهلية للنشر والتوزيع. ويسرني اشراك القارئ في عرض ومناقشة بعض أفكاره، خاصة أن الكتاب حاصل على جائزة غولد سميث للكتاب من جامعة هارفرد، وجائزة جمعية الصحفيين المهنيين، وجائزة بارت ريتشارد من جامعة بنسلفانيا. الكتاب يغطي عدة موضوعات من أبرزها العلاقة بين الصحافة والتكنولوجيا وتأثير التطور التقني على وسائل الاعلام التقليدية، والموضوعية، والشفافية، والاستقلالية، وصحافة التحقق، وحقوق ومسؤوليات المواطنين. وهو كتاب يتميز بشكل عام بدعم أفكاره بأمثلة من الواقع، وبتحديثه وتكيفه للواقع الاعلامي الجديد. ومن المعروف أن الصحافة الناجحة هي التي تمارس مسؤوليتها باستقلالية وتبحث عن الحقيقة بموضوعية، وتلتزم بالمعايير الأخلاقية. التقرير الصحفي الخاص بوثائق بنما هو حالة من حالات كثيرة في تاريخ الصحافة، وهو محاولة يبدو أنه بذل فيها كثير من الجهد للفصل بين الحقيقة والاشاعات. في هذا المقال لا ندخل في تفاصيل وثائق بنما وإنما في تفاصيل الكتاب. يشير الكتاب الى أهمية التزام الصحفيين بقول الحقيقة. وحين سؤال 100 صحفي عن القيم التي يعتبرونها أساسية من قبل مركز أبحاث بيو للشعب والصحافة كانت الإجابة : فهم الحقائق بشكل صحيح. يتطرق الكتاب الى تعريف الصحافة والغرض منها. في موضوع التعريف هناك من يرى أن تعريف الصحافة يعني وضع حدود لها، بل إن بعض الصحفيين يشعرون بالقلق من أن تعريف الصحافة لن يفيد إلا في جعلها مقاومة للتغيير، ما سيؤدي الى اندثارها. ومن الأسئلة التي يطرحها الكتاب السؤال التالي : ما هو الغرض من الصحافة؟ ويجيب مستشهدا بأحداث تاريخية وقعت في مجتمعات متنوعة بأن الصحافة كانت من أجل بناء مجتمع، ومن أجل المواطنة، ومن أجل الديمقراطية. تلك الأهداف للصحافة التي يشير اليها الكتاب توضح حجم المسؤولية، وأهمية الرسالة، والاستقلالية بحثا عن الحقيقة. إحدى الأسئلة التي يطرحها الكتاب تتعلق بالحيادية، وهل هي مبدأ أساسي من مبادئ الصحافة ؟ يرى المؤلفان أن الحيادية ليست من مبادئ الصحافة. ولو كان الأمر كذلك لتم استبعاد كتاب الأعمدة وكتاب الافتتاحيات من المهنة. الحيادية في نظرهما لم تكن أبدا ما كان مقصودا بالموضوعية. وهنا يصبح من المنطقي أن نطرح على المؤلفين هذا السؤال: كيف يستطيع الصحفي أو أي انسان أن يكون غير حيادي، وموضوعي في آن واحد ؟ يجيب المؤلفان عن هذا السؤال : عندما يرفض النقاد بمن فيهم الكثير ممن يعملون في الصحافة مفهوم الموضوعية، فإنهم يفعلون هذا عادة على أساس أنه ليس هناك شخص يمكن أن يكون موضوعيا على الإطلاق. يقول مؤلف كتاب (نحن وسيلة الإعلام) في مقالة بعنوان (نهاية الموضوعية): (نحن بشر ولدينا تحيزات وخلفيات ومجموعة متنوعة من الصراعات التي نجلبها يوميا الى وظائفنا). البديل للموضوعية حسب رأيه هو الشمولية والدقة والانصاف والشفافية. ومرة أخرى نسأل : كيف يمكن تحقيق ذلك بدون الموضوعية؟ يجيب المؤلفان : عن طريق الواقعية بدلا من الموضوعية. وتفسير ذلك أنه إذا قام المراسلون ببساطة باستخراج الحقائق وتنظيمها معا، فإن الحقيقة من شأنها أن تكشف عن نفسها بشكل طبيعي. ولكن في بداية القرن العشرين شعر بعض الصحفيين بسذاجة الواقعية وعدم موضوعية البشر. يستشهد المؤلفان بمحرر مشارك في صحيفة نيويورك ورلد كتب في عام 1919 تقريرا عن تغطية صحيفة نيويورك تايمز للثورة الروسية قال فيه : (إن الأخبار عن روسيا في معظمها هي حالة عدم رؤية ما كان، ولكن ما كان يريد الرجال أن يروه) يلاحظ أن هذا يحدث في بلاد تعد فيها الصحافة مستقلة. هذا الفشل الصحفي في نقل الحقيقة نجده في أحداث أخرى لعلّ منها في التاريخ الحديث كذبة أسلحة الدمار الشامل قبل غزو العراق. وهي امتداد لتاريخ مماثل ومن ذلك القصة التالية كما يرويها الكتاب الذي نتحدث عنه : بعد أيام من مقتل جون كيندي، أرسل خليفته الرئيس جونسون بطلب وزير الدفاع ليعرف منه حقيقة ما يجري في فيتنام. لم يكن جونسون يثق بما كان يقال له عندما كان نائبا للرئيس. سافر وزير الدفاع الى فيتنام لمدة ثلاثة أيام تحدث فيها الى كافة الجنرالات وتجول في مناطق القتال المختلفة. في طريق العودة عقد مؤتمرا صحفيا قائلا إنه يشعر بتفاؤل كبير حيث أخذت القوات الفيتنامية دورا أكبر من أي وقت مضى، وزادت الاصابات في صفوف العصابات الشيوعية. وعندما وصل الوزير الى أميركا قال نفس الشيء في مؤتمر صحفي آخر، ثم قابل الرئيس جونسون وقدم له تقريرا، ثم لم يسمع العالم أي شيء بعد ذلك. ثم جاء دور الصحافة، فبعد ثماني سنوات نشرت صحيفة نيويورك تايمز، وصحيفة واشنطن بوست وقائع سرية سجلتها الحكومة حول ما كان الزعماء يعرفون حقا ويعتقدون بشأن حرب فيتنام . وقد تضمنت هذه الوثائق التي أصبحت تسمى بأوراق البنتاغون حقيقة ما نقله وزير الدفاع الى الرئيس وهي أن الأمور كانت تسير نحو الأسوأ في فيتنام الى حد كبير. ما ذكر في هذا التقرير كان مناقضا لما قيل في المؤتمرين الصحفيين. وبعد عقدين من الزمن تساءل رئيس تحرير صحيفة الواشنطن بوست : ما الذي يمكن أن يكون قد حدث لو ظهرت الحقيقة في العام 1963 بدلا من العام 1971؟ في موضوع بعنوان (حقوق ومسؤوليات المواطنين) يتطرق الكتاب الى العلاقة التفاعلية بين الصحافة والجمهور بفعل تأثير التقدم التقني. يستشهد في هذا الموضوع بما حصل عام 2005 حين انفجرت ثلاث قنابل في مترو أنفاق لندن. كانت هيئة الاذاعة البريطانية تحشد قواها وخبرتها لتغطية هذا الحدث المهم لكنها استلمت بعد ست ساعات من الهجوم أكثر من ألف صورة، وعشرين مقطع فيديو، و 4000 رسالة نصية، و20,000 رسالة بالبريد الإلكتروني تم ارسالها جميعها من قبل مواطنين. لقد كانت التغطية الصحفية تغطية شراكة على حد وصف مدير قسم الأخبار في الاذاعة. المجال لا يتسع لعرض كل موضوعات الكتاب، وربما نعود إليه مرة أخرى. ولكني سأختم بنقطتين، الأولى هي ولاء الصحافة، وفي هذا يشير الكتاب الى دراسة كانت نتيجتها أن 70% من الصحفيين يضعون الجمهور على أنه ولاؤهم الأول متفوقاً على أصحاب العمل، أو على أنفسهم، أو على مهنتهم أو حتى على عائلاتهم. النقطة الثانية هي ملاحظة طريفة يوردها الكتاب عن النمطية في تقرير احدى الصحف حول غرق السفن. كل قصة من ذلك النوع كانت تبرز قطة ناجية. وعند الاستفسار عن السبب اتضح فعلا وجود قطة في احدى السفن الغارقة وعاد الطاقم لإنقاذها. صحفيون آخرون لم يذكروا القطة فتعرضوا للتوبيخ. ثم غرقت سفينة أخرى ولم يكن فيها قطة لكن الصحفي وضع فيها قطة من باب الاحتياط. وقال : عندما تكون هناك سفينة غارقة نقوم جميعا بوضع قطة بداخلها. Yousef_algoblan@hotmail.com
مشاركة :