يمكن التأريخ للفلسطينيين بعيشهم بين نكبة وأخرى، فمن النكبة الأولى (1948)، المؤسسة للسردية وللهوية الوطنية الفلسطينية، والتي نجم عنها تشريد معظم الفلسطينيين من وطنهم، وتحويلهم إلى لاجئين، مع إقامة دولة إسرائيل، إلى النكبة الثانية (1967)، التي سميت بالنكسة، من قبيل التخفف، والتي استطاعت فيها إسرائيل احتلال باقي الأراضي الفلسطينية (الضفة والقطاع)، التي حرم وقتها الفلسطينيون من إدارتها، وباتت اليوم بمثابة الهدف الأساسي للحركة الوطنية الفلسطينية، لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة فيها (22 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية)، إلى النكبة الثالثة، أي الحالية، التي نعيش فصولها منذ أكتوبر/ تشرين أول (2023)، والتي نجم عنها خراب غزة، وتحويلها إلى منطقة غير صالحة للعيش، مع افتقاد أكثر من مليوني فلسطيني للماء والكهرباء والغذاء والوقود والدواء وأماكن الإيواء، بنتيجة حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على القطاع منذ أكثر من سبعة أشهر. على ذلك فإن النكبة ليست حدثا للتذكر، أو التأسّي، والعيش على الأطلال، فقط، وإنما هي حدث يحثّ على تفحّص الأسئلة التي طرحها، أو فجرّها، للتفكير بمحاولة إيجاد إجابات مطابقة لها ما أمكن، مع ضرورة إدراك التمييز، أو عدم الخلط، بين ذلك الحدث المتعيّن بالتاريخ (1948)، والذي تضمن اقتلاع ثلثي الشعب الفلسطيني وتشريدهم من بيوتهم وأراضيهم وممتلكاتهم وتحويلهم إلى لاجئين وإقامة إسرائيل كدولة لليهود المهاجرين/ المستوطنين بواسطة القوة، والذي لم يتم تجاوزه في أي شكل حتى الآن، وبين تداعياته المستمرة والمتعددة، إلى اليوم، رغم الترابط الوثيق ما بين النكبة الأولى، وما بعدها من نكبات، التي لها سياقات ومعطيات وتداعيات مختلفة، تفترض الحثّ على البحث بها، وكشفها وتمييزها. في هذا الإطار يمكن ملاحظة أربعة أحداث مؤسّسة في تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث، في الـ 76 سنة الماضية، أسهمت في تشكيل إدراكاته لذاته، ومكانته، وهويته، وأثّرت في رؤيته لمحيطه وللعالم، ولطبيعة علاقته معهما. الحدث الأول، يتمثّل بالنكبة، واللجوء، بنتيجة إقامة إسرائيل (1948). والثاني، ولادة الحركة الوطنية الفلسطينية (1965)، وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ككيان سياسي جامع لشعب فلسطين، مع تأثير ذلك على الفلسطينيين وعلى مكانتهم عربيًّا ودوليًّا. والثالث، عقد اتفاق أوسلو (1993) وإقامة سلطة فلسطينية في الضفة والقطاع؛ علمًا يأننا اليوم إزاء سلطتين، واحدة في الضفة الغربية لحركة فتح، والثانية في غزة لحركة حماس. والرابع، وهو حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، منذ أكتوبر في العام الماضي. في الواقع فإن الحدث الأول، رغم عمقه وخطره، ليس كافيًا لتعريف الفلسطينيين لذاتهم كشعب، لأنه تعريف بالسلب، لهويتهم، ولتصوّرات الآخرين عنهم، عربيًّا ودوليًّا، كمجتمعات وكدول، وحتى إزاء أنفسهم، وإزاء عدوهم (إسرائيل). والقصد أنه لا يمكن لشعب العيش مع تعريف كهذا، أو تعزيز هويته به، لأنه ينطوي على الانكفاء أو الذوبان والتبدّد، لا سيّما مع غياب الإقليم الموحد والمجتمع الواحد، ولأن الهويات ظاهرة تاريخية، تتطور وتتعزّز أو تذهب نحو الأفول والغياب أو التحول. والمعنى أن النكبة لوحدها، كحدث مضى، لا يمكن أن يشكّل حاضنة، أو مضمونًا، للهوية، لأنه لا يحمل مدلولات ملموسة عملية، مستدامة، لأجيال من ملايين الفلسطينيين، رغم ما يحمله من شحنات شعورية، أو عاطفية، وهذا ما يمكن ملاحظته اليوم من التباين في أولويات الفلسطينيين، وتعبيراتهم المختلفة عن ذواتهم، حسب أماكن وجودهم. الحدث الثاني، وهو الناجم عن ولادة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة (في منتصف الستينيات)، وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، التي باتت بمثابة الكيان السياسي المعنوي للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، منذ أواخر ستينات القرن الماضي، إلى حين إقامة السلطة الفلسطينية (1993). فبالرغم من أن ذلك التطور، أو الإنجاز الوطني التاريخي، بات يعرّف الفلسطيني، ويعرف العالم به، بالإيجاب، وكرد فعل على الحدث الأول، وفي محاولة نفيه، مؤكدًا حضور الفلسطينيين كشعب من الغياب، وبالأحرى التغييب، من المكان والزمان والرواية التاريخية، إلا أنه ظل قاصرًا، إذ لم يستطع الفلسطينيون لأسباب ذاتية وموضوعية البناء عليه، وتجسيده في معطيات جغرافية وديموغرافية وسياسية، وهو ما نشهد عليه هذه الأيام، مع أفول حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وتحولها إلى سلطة، أو إلى سلطتين، لجزء من شعب على جزء من الأرض في جزء من حقوق، مع استبعاد اللاجئين أو ازاحتهم من المعادلات السياسية، ومع تهميش منظمة التحرير التي نشأت ككيان وطني جامع لكل الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، كما قدمنا. المفارقة أن ذلك الحدث حصل قبل عامين من النكبة الثانية، وأنه في حين انطلق لمواجهة النكبة الأولى، إلا أنه ما لبث أن حصر هدفه بإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، بالانزياح من الرواية تأسست على النكبة الأولى (قضية اللاجئين ورفض إقامة إسرائيل) إلى الرواية المتأسسة على احتلال (1967) والاعتراف بإسرائيل. أما الحدث الثالث، فقد بدا كمسار نكوص عن الحدث الثاني (الإيجابي نسبيًّا)، أو كقطيعة معه، وكحركة سالبة تثبت، أو تضفي شرعية، على الحدث الأول، الذي مضت عليه سبعة عقود ونصف، بما في ذلك إقامة إسرائيل ذاتها. علما بأن ذلك الحدث أدى الى تحويل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى مجرد سلطة في الضفة والقطاع، مع كل تبعات ذلك على الفلسطينيين، وعلى شكل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فيما يخص الحدث الرابع، أي نكبة الفلسطينيين في غزة، والتي سيكون لها أثرها على شكل الحركة الوطنية الفلسطينية، وضمنها حماس، ومنظمة التحرير، والسلطة الفلسطينية، وعلى طبيعة العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، وضمنه مكانة إسرائيل في المنطقة والعالم، فمن الصعب، ومن المبكر، التكهن بتداعياتها، أو بالشكل الذي ستتموضع عليه، في قادم الأيام. في المقارنة بين الأحداث المذكورة تبدو النكبتان الأولى والرابعة، الأكثر والأرسخ تأثيرًا، علما بأن الحديث هنا ليس عن عودة إلى الماضي، الذي لا يمكن إعادته، ولا عن طوبى ربما لن تصل، أو لن يصل إليها الفلسطينيون، ولا عن تخيلات، وإنما عن مستقبل ممكن لشعب فلسطيني، يفترض أن يتشكل على قواعد الحقيقة والكرامة والعدالة (ولو النسبية)، وعبر المطابقة بين القضية والشعب والأرض، مع الأخذ في الاعتبار التطورات الجديدة.
مشاركة :