روّجت الفصائل الفلسطينية، منذ انطلاقتها، قبل أكثر من نصف قرن، لعديد من الأساطير، أو التوهّمات، التي ظلت تتحكم بإدراكات الفلسطينيين، في نظرتهم لذاتهم، ولمحيطهم، ولدورهم، بحيث أضحت بمثابة عائق يحدّ من تطور تفكيرهم السياسي، ويثقل على قضيتهم ويضر بصدقية كفاحهم من اجل حقوقهم الوطنية، بل إنها باتت بمثابة قيد يحد من تطور الفصائل ذاتها. لنأخذ مثلاً، اعتبار أن قضية فلسطين هي بمثابة القضية المركزية لـ «الأمة العربية» (وثمة من أضاف فوقها الأمة الإسلامية!)، في حين أنها لم تكن كذلك بالنسبة للأنظمة كما بينت التجربة، في واقع لا دور ولا رأي فيه للشعب أو للجماهير، في ظل الأنظمة السائدة، التي تعاملت مع تلك القضية كوسيلة للمزايدة والاستهلاك والابتزاز في حقل العلاقات العربية البينية، ومجرد غطاء تعزز به شرعيتها، وتبرّر من خلاله مصادرتها حقوق وحريات مواطنيها، وتغطي تغوّل سلطتها الأمنية. هذا كله إضافة إلى أن هذه الأنظمة لتي كانت تدّعي الحرص على قضية فلسطين اشتغلت بالتنكيل بالفلسطينيين واستلاب حقوقهم كبشر. في الغضون فقد غاب عن إدراكات تلك الفصائل أن للمجتمعات العربية مشكلاتها وحاجاتها وأولوياتها أيضاً، ومن ضمنها تحقيق ذاتها في المواطنة والحرية والمساواة والعدالة، والتي تم تغييبها أو مصادرتها بدعوى الصراع مع إسرائيل، بل إن هذه الحركة سكتت، عن امتطاء هذه الأنظمة قضية شعبها، بل إنها غالباً سهلت لها ذلك. ما غاب عن إدراكات الفلسطينيين، في هذه الحيثية، أيضاً، أن تحرير فلسطين، أو مواجهة إسرائيل، يتطلبان واقعاً آخر، لأن الأنظمة السائدة، من الناحية العملية، جزء من الواقع الذي يضمن حراسة استقرار إسرائيل، هذا أولاً. وثانياً، أن فلسطين هذه ليست فقط قطعة أرض غالية، ولا مجرد جغرافيا مهمة، وإنما هي قضية شعب، وهي جزء من قضية الحرية والحقيقة والعدالة في العالم العربي. وثالثاً، أنه من المضر لقضية الفلسطينيين وضعها مقابل أولويات وحاجات وقضايا المجتمعات العربية، أو اعتبارها أكثر أهمية منها، ما يعني أن على هذه القضايا ان تنتظر او تؤجل، وكأن التحرير قاب قوسين أو أدنى أو كأن هذا الواقع العربي سيفضي الى تحرير من أي نوع! أيضاً ثمة فكرة الكفاح المسلح، الذي بات يُنظر إليه باعتباره الطريق الحتمي والوحيد لتحرير فلسطين، ما نجم عنه إزاحة الشعب من معادلات الصراع، لمصلحة الجماعات المسلحة المقاتلة، والمبالغة بقدرات الفلسطينيين، وتنمية أوهامهم عن حالهم، فضلاً عن تقديس الكفاح المسلح وإخراجه من دائرة الفحص والسؤال عن الجدوى. كما نجم عن ذلك تعريض الفلسطينيين لجبروت الآلة العسكرية الإسرائيلية، باعتبار أن الأمر يتعلق بقوة عسكرية في مقابل قوة عسكرية. اللافت أن حركة «فتح»، حين أطلقت الكفاح المسلح كانت إدراكاتها السياسية تتأسّس على أنه بمثابة وسيلة لإبقاء قضية فلسطين حيّة، وأنه وسيلة لتوريط الأنظمة وكشفها («التوريط الواعي»)، مع تأكيدها في أدبياتها الأولى أن تحرير فلسطين يتطلب دخول الجيوش العربية في المعركة، وأن الكفاح المسلح الفلسطيني يقتصر دوره على التحريك واستنزاف إسرائيل، ما يمهد للحسم بواسطة الجيوش العربية. وبمعزل عن رأينا بهذا الكلام، وبسذاجته أو حكمته، فإن حركة «القوميين العرب»، وقتها، وهي الحركة التي خرجت من بطنها «الجبهة الشعبية» (أواخر الستينات) كانت رفضت هذا المنطق «الفتحاوي»، واعتبرته بمثابة مغامرة، وتوريطاً للنظام القومي التقدمي المتمثل بالنظام الناصري، في حينه. أما فرع حركة «الإخوان المسلمين» في فلسطين، والتي خرجت من رحمها حركة «حماس»، في ما بعد، فهي فلم تولِ الكفاح المسلح اهتمامها، وظلت تركز على ما اعتبرته «الجهاد الأكبر»، وفق مفهومها وعقيدتها. في كل الأحوال فإن كل الفصائل اتجهت، في ما بعد، نحو الكفاح المسلح معتبرة إياه الطريق الوحيد والحتمي للتحرير، بل إنها أضفت عليه نوعاً من القدسية، من دون تبصّر بمستلزمات وتبعات وتداعيات هذا الشكل الكفاحي، ومن دون الاهتمام بعدم توافر إمكانياته، بخاصة مع تفوق إسرائيل الفادح ليس على الفلسطينيين فحسب وإنما على محيطها العربي. الأهم من كل ذلك أن الفصائل، بما فيها «فتح» و»حماس»، لم توضّح إستراتيجيتها العسكرية، بخصوص الكفاح المسلح او حرب التحرير الشعبية، لتحرير فلسطين أو جزء من أرض فلسطين، حتى الآن، على رغم نصف قرن من التجربة، بل إنها لم تخضع هذه التجربة للمراجعة والنقد، ولم يتحمل أحد مسؤولية كل التجارب والأخطاء، وتم الاستخفاف بكل أشكال النضال الأخرى. ما يفترض الانتباه إليه هنا أن هذا الحديث يأتي بعد اختبارات التجربة، التي عمرها أكثر من نصف قرن؛ هذا أولاً. ثانياً، هذا يأتي مع معرفتنا بأن الفصائل مرتهنة بإمكانياتها ومواردها الى الدعم الخارجي المشروط، والموظف من هذه الدولة أو تلك. ثالثاً، أن الفصائل السائدة ما زالت مصرة على ديماغوجيتها في التعاطي مع هذا الأمر رغم ضعفها، وافتقادها وسائل الكفاح المسلح، وعلى رغم انكشاف توظيفاته، وعلى رغم أنها في مرحلة سابقة تحدثت عن الانتفاضة الشعبية بوصفها الشكل الأفضل والأنجع لكفاح الفلسطينيين. أيضاً، هناك الأسطورة الفصائلية التي روّجت لاعتبار الفلسطينيين بمثابة شعب قوي وجبار ويمكن أن يزلزل الأرض من تحت أقدام إسرائيل (ولا أحد يعرف لماذا لم يحصل ذلك حتى الآن؟). وفي الواقع فإن الشعب الفلسطيني مشتّت، ويخضع لسيطرة أنظمة متعددة ومختلفة، وضعيف الإمكانيات، وما زال يتعرض للتشريد، كما حصل مع المجتمعات الفلسطينية في لبنان والعراق وسورية مؤخراً. ومثلاً فهو لم يستطع فتح حاجز رفح مع مصر، على رغم ثلاث حروب إسرائيلية على غزة، فوق ذلك، وعلى رغم انتفاضتين وعديد من الهبّات، وما زالت النشاطات الاستيطانية والجدران الفاصلة والطرق الالتفافية تأكل من أرضه وتمنع تواصله. قصارى القول فإن الفلسطينيين، وبعد تجربة أكثر من نصف قرن، معنيون بوعي ذاتهم، وحدود إمكاناتهم، ووعي العالم المحيط بهم، كما أنهم معنيون تحديداً بمراجعة الأساطير أو الإدراكات المذكورة ونقدها والقطع معها، ومع مجمل الفكر الفصائلي الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه، بعد أن باتت هذه الفصائل بتقادمها وعجزها وجمودها قيداً على تطور الحركة الوطنية للفلسطينيين وعبئاً على قضيتهم. طبعاً ثمة من سيسأل عن البديل، وبمعزل عن النوايا الطيبة أو الخبيثة، المعرفية أو غير ذلك، التي يمكن أن تقف وراء هكذا تساؤل، فإن هكذا سؤالاً ينطوي على مخادعة وتلاعب وتشكك، وهو يغطي على نزعة حراسة أو استمراء الواقع الراهن. بمعنى آخر فحتى مع عدم وجود بديل ناجز، فإن الحل لا يكمن في التشبّث بالواقع المتكلس الذي تعيشه الساحة الفلسطينية، مع إخفاق خياراتها السياسية، وترهّل كياناتها السياسية، وضياع مشروعها الوطني، وحال التدهور التي تمر بها مجتمعات الفلسطينيين. والقصد أن البديل سيأتي في وقته، وبتضافر الجهود، وفي الظروف المناسبة.
مشاركة :