لا شك أن التعليم هو شأن عام ومحط أنظار كل مواطن يؤمن بأن منظومة التعليم هي المحرك الفعلي لمشاريع النهضة التي ستقود المجتمع إلى آفاق المستقبل، ومع كل تصريح أو توجيه لوزير التعليم يبدأ المهتم بالشأن التعليمي بتلقف هذه التصريحات والتمعن في مضامينها، في محاولة منه لاستشراف ملامح المرحلة المقبلة. وهنا سأتوقف مع أحد هذه التوجيهات التي صدرت عن الوزير للجامعات بوجوب تعيين أعضاء هيئة التدريس عن طريق المجالس المختصة، ولعل مجلس القسم يأتي في مقدمتها، لكن إذا كانت اللائحة المنظمة لشؤون أعضاء هيئة التدريس ومن في حكمهم تنص صراحة على ذلك فما الداعي للتأكيد عليه، وهنا تكمن الإشكالية إذ إن بعضا من هذه المجالس قد أصبحت رهينة توجهات مسبقة وقرارات موجهة بما يخالف تلك المواد التشريعية نصا ومضمونا، وهناك العديد من الصور التي وللأسف مورست لفرض الوصاية على هذه المجالس مما عطل دورها الفعلي في اتخاذ قرارات حيادية تؤسس على منطق علمي. فعلى سبيل المثال وفيما يتعلق بتعيين أعضاء هيئة التدريس قامت بعض الجامعات بتشكيل لجان عليا من هرم المنظومة الإدارية لدراسة تلك الحالات قبل عرضها على أي مجلس مختص وإصدار توصياتها، وهنا نتساءل ماذا بقي لهذه المجالس إذا كانت التوجهات قد حددت مسبقا ممثلة في هذه التوصيات، هل عرض مثل هذه الموضوعات على المجالس المختصة بعد أن حكمت عليها تلك اللجان العليا قد غدا ممارسة للتغطية القانونية! ألا يعد هذا نوعا من الوصاية على تلك المجالس والأقسام التخصصية؟! أما كان الأجدر بهذه اللجان العليا أن تستثمر وقتها وتستغل جهودها في وضع إستراتيجيات ومشاريع عمل لتطوير المؤسسة التعليمية! إن المجالس العلمية المختصة هي الأدرى بما يعنيها، من هنا فإن منح هذه الأقسام العلمية ومجالس الكليات الثقة ودعمها سيعززان دورها الحيوي الممثل في كونها أساس بناء العديد من القرارات التي ستؤثر فيها مستقبلا، لكن قد يأتي البعض ويقول بلغة المشككين إن هذه المجالس تعج باللوبيات التي تجمعها مصالح مشتركة، لذا فإن المسؤول عن إدارة المنظومة قد اضطر لهذه الأنماط من فرض الوصاية. هذه التكتلات التي أسمع بها ولم أعرفها رغم أن خدمتي في التعليم العالي قد جاوزت العشرين سنة، هي أشبه بمن يقول إن الأمة يمكن أن تجتمع على باطل. لا أنكر أن بعض الزملاء في هذه المجالس تجمعهم علاقات قوية ستفضي إلى نوع من التوافق في قراراتهم، إلا أن هذا لا يعني الاصطفاف مع حكم جائر أو منطق ضعيف. التمادي في تقليص الدور الذي منح للمجالس التخصصية، وتحديدا لمجلسي القسم والكلية، وفقا للوائح التشريعية بصور مختلفة وبحجج متعددة، سيجعل من هذه المجالس كيانات بيروقراطية جامدة وسيضعف الحس بالمسؤولية الذي يعزز من خلال الشراكة في صنع القرارات. عندما وجه الوزير الجامعات إلى تخفيض القبول في كليات التربية إلى 50% وتحديد نسبة القبول الموزونة إلى 85%، تبادل الزملاء من كليات التربية في جامعات مختلفة في المملكة على إحدى مجموعات الواتساب التي تجمعني بهم العديد من المشاركات التي ذهبت في مجملها إلى مباركة هذا التوجه لأن كليات التربية قد غدت مخرجا لاستيعاب ضغط القبول في الجامعات، مما أسهم بصورة أو بأخرى في ترهل العديد من مخرجاتها. ذكر لي أحد الزملاء أن هذا التوجيه قد أتى على خلفية اجتماع الوزير بعمداء كليات التربية في الجامعات، وهنا نتساءل إذا كان مثل هذا القرار يصب في مصلحة كليات التربية، فلماذا يلجأ عمداء الكليات إلى الوزير؟ أما كان من المناسب أن يتخذ مجلس الكلية الذي يترأسه العميد مثل هذا القرار، أم أن واقع الحال يفضي إلى أن تلك المجالس المختصة تقف قليلة الحيلة أمام تلك القرارات الاستراتيجية، وبالتالي انحصر دورها ومجمل جهدها في تسيير أمور روتينية تنفيذية؟. أتمنى أن تقدم مؤسسات التعليم العالي أنموذجا لفلسفة التعليم العالي من خلال ثقافة المؤسسة وممارساتها الإدارية التي تعكس ذلك.
مشاركة :