تأملات في نص : (الشفاه اللعس) للشاعرة /أفراح مؤذنة-

  • 5/25/2024
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

الشفاهُ اللُّعْس ‏تعاتبُ في الليالي قلب نجوى ‏وفي الاصباح ترميها لغرقى ‏تريد الحبَّ كالأعناب قطْفاً ‏يذوب على الشفاهِ الُّلعسِ صدقا ‏تلألأَ في سماءِ العشق بدرا ‏وفي أفلاكها الأطياف تلقى ‏تريدُ من الليالي دفءَ نايٍ ‏على همساته والعزف طرقا ‏تريدُ أنوثةً تُغريكَ حتى ‏ تحاصر خصرها وتنال عنْقا ‏فضاؤكَ بالأماني عاد يُشجي ‏إلى كلِّ النساء تهيم دِفقَا ‏إذا ما كنتَ في محرابِ عينٍ ‏تنزَّل وحيها في الناس عشقا ‏فدعْ صوت الرياح يثير روحاً ‏يعجُّ بخافقٍ ليهيج شوقا ‏"حيارى يعشقونَ البينَ دمعا ‏سكارى في بحور الشعر غرقى" _______ تقديم: للفيلسوف الراحل:عبدالرحمن بدوي مقولة دقيقة عن الشعر يقول فيها :«إنَّ عالم الشعر وإن كان مخالفاً لعالم الواقع، أقدر على إدراك أسرار القلب الإنساني » ومبعث ذلك في رأيه:«أنَّه يحسن استنباط المنطق من الأفعال الإنسانية والانفعالات». وللشاعر أدونيس في قصيدة له عنوانها (إسماعيل) ترد هذه العبارة التقريرية : « الشعر فاتحة العقول». ولعلَّ القاسم المشترك بين تينك الكلمتين أنَّ كلا المفكرين يشير إلى فرادة جوهر الشعر وتميّزه على سائر الفنون الإبداعية الأخرى كالرسم والرقص وما إليهما فوق أنَّه يجلب متعةً جمالية لايجلبها فن آخر بفضل عناصره الفنية المؤثرة التي لاتنفصل عنه بأي حال من الأحوال. هذا الاستنباط المشار إليه هو الذي يعنيني هنا في الإشارة إلى أنَّ تجربة الشاعرة الشعورية هنا، وانتقالها من أفق إلى آخر في تنضيد معاني أبياتها المنثالة ، إنما تشكلت لبناتها الأساسية في ضوء الطاقة التخييلية التي تتمتع بها من جهة، ومن جهة أُخرى إيمانها الثابت بدور الشعر الفعَّال في توجيه السلوك الإنساني بعيداً عن الخطابية الفجَّة بطبيعة الحال. _______ -عنوان النص ودلالاته : تستمد الشاعرة لفظة (اللعس) من ينابيع التراث مباشرة وتصبغ بها لفظة (الشفاه) فإذا (الشفاه المنعوتة باللعس) هي التي تصدر القول الشعري الموشَّى وهي التي تتولى مسؤولية الموقف وتبعاته المتعلقة به أيَّا كانت.. والسؤال الذي ينبثق من وراء اختيار ذلك العنوان هو:لماذا خاصية (اللعس) هي التي لفتتْ نظر الشاعرة؟ وما معني اللعس في حدذاته؟! في قاموس اللغة إشارات إلى تلك المفردة إذ يرد (اللَّعَسُ) بمعنى: سواد مستحسَن في باطن الشفة. 1. (ولُعْس) المستخدمة في العنوان هي جمع (أَلْعَس). وقد وردت هذه اللفظة في الشعر العربي قديمه وحديثه؛ كما في الشواهد التالية: يقول النابغة الشيباني: وفي الخدور مهاً بيضٌ محاجرها تفترُّ عن برَدٍ قد زانه اللَّعَس! ويقول الشاعرذو الرمة: أَوَانِسُ حُورُ الطَّرْفِ لُعْسٌ كَأَنَّهَا مها قفرة ٍ، قدْ أفردتهُ جآذره! وفي العصر الحديث نجد عنوان الشاعرة ذاته يتردد في شعر (بدوي الجبل) وذلك في قوله: ولمحت فيه جلال حسنك راقداً فوق الشفاه اللُّعس و الأهداب! وفي نص آخر يقول: يقطف الحسن على أوراقه من شفاهٍ عذبة الملمس لُعْس! نستنتج من وراء هذه الشواهد أن الشاعرة كانت تعي تماماً دلالات العنوان وتناصِّه مع استخدامات السابقين من شعراء العربية هذه ناحية. والناحية الثانية أنَّ اتخاذها ( الشفاه اللّعس) عنواناً لنصِّها من الممكن أن يدخل مجازيَّاً تحت إطار تسمية الكل باسم الجزء،حيث تمثل الشفتين مدخل الكلام المنطوق ومخرجه في ذات الوقت، وهما بتعبير آخر الوسيلة الأساسية المُثلى لبعث الكلام ومضامينه ومرتكزاته المحتدمة في أقطارالنفس و في جنباتها إلى المستمع المراد توجيه الكلام إليه. كما يحتمل أن ترمز (الشفاه اللعس) إلى أنَّ الكلام الشعري الصادر إلى الطرف الآخر،يجيء من منطقة انصبَّ عليها جلَّ اهتماماته المتمحورة حول تكالبه على اللذَّة الشكلية المؤقتة وإغضائه عما عدا ذلك من قيم روحية عُليا. والذي لاغبار عليه أن العنوان أولاً وأخيراً يوحي بالرِّقة العاطفية التي تشي بحرارة الكلام وصدق مراميه. _______ الجو العام للنص. نستطيع أن نقول بجلاء إنَّ هذه السيمفونية الوجدانية ذات أبعاد جمالية تشير وتدلُّ إلى مافي الطبع الإنساني من إحساسات ناجمة من الواقع الخارجي الذي يعدُّ "حلْبة صراع المفارقات". ويمكننا أن نقول في غير مواربة إنَّ شعر المرأة ولاسيما في العقدين الأخيرين بلغ درجة عالية مرموقة في سلالم البيان العربيِّ الرفيع -إن جاز التعبير-وذلك بفضل ثقافتها اللغوية الواسعة وانفتاحها الفكري على المعارف الأخرى في ظلِّ حريَّة التعبير التي تنعم بها. ولله مقولة الإمام ابن عربي المدويَّة في سمع الزمان التي أشار فيها بقوله: «كلُّ مكان إذا لم يؤنث لا يعوَّل عليه»،ولاشك أنَّ شاعرة النص من الشاعرات اللواتي حرصن على تعزيز موهبتها وترسيخ قدميها في ميدان الشعر الصادق المتصل بهمومها الذاتية والاجتماعية. لذلك فهي في هذا النص تدبِّج رسالة مغلفة بالرومانسية ذات الطابع المتزن الطامحة إلى تصحيح المسار أو النظرة الأُحادية القاصرة للأمور وحركة الحياة وأحداثها الموَّارة. توجِّه الشاعرة رسالتها تلك إلى شخصية تبدو للوهلة الأولى عامَّة،فإذا أمعنَّا النظر في لغة الخطاب وسياقاتها تبيَّن لنا أنَّها بصدد رصد ملامح تجربة تدور في محيطها الخاص غالباًأوفي نطاق دائرتها الاجتماعية،ولايتنافى ذلك مع المواءمة بين الخاص والعام . على أن ذلك الجانب لايعنينا بمقدار ماتعنينا الخطرات القلبية التي باحت بها، والأدوات الفنية التي تشكلت منها هذه اللوحة، إلى أن تكونتْ ملامحها فيما يمكن أن يسمّى بالبناء اللغوي القائم بذاته. فماذا إذن وراء تلك اللوحة من أسرار؟! الملاحظ هنا-فيما أرى- أنَّ الشاعرة تضع أيدينا على نموذج إنساني منمَّط أو لنقل متطلِّب إلى درجة تقترب من حدود(النرجسيَّة) ويؤكد ذلك إشارتها إليه بالفعل (تريد) أكثر من مرة فضلاً عن العتاب الذي لامبرر له كما في مطلع النص (تعاتبُ في الليالي قلب نجوى) هذا الإنسان المرموز إليه في النص يتطلب تحقيق أشياء معينة من الجماليات أو الاستحواذ عليها فهو يهذي بها ليل نهار ويكاد يستبد به الطمع في محاولاته المستميتة لنيلها ،وغاب عن فكره أن :«دون الشهد إبر النحل» كما قال الحكيم . وتتجسَّد مظاهر تلك الشخصية المحوريَّة -كما وردت في النص- في العديد من الإشكالات ذات النزعة الذاتية المجردة ؛فهي كما في السطور التالية: -(تريد الحبَّ كالأعناب قطْفاً) هنا تتضح نظرته المادية المحصورة لعاطفة الحب الإنسانية ،فهو ينظر إلى روح المشاعر الكامنة في الأعماق والأحاسيس الوجدانية الهفهافة كما ينظر للفواكه من عنبٍ وغيرها ،يلتهمها في لحظات وينساها في الوقت نفسه، وليس ذلك فحسب بل إن فعل الإرادة (يريد) أصبح هاجساً ملازماً له أو ديدناً لاينفصل عن تركيبته المزاجية. -(تريدُ من الليالي دفءَ نايٍ) يتطلع إلى الليالي كي تمنحه الفرح والبهجة والمتعة -(تريدُ أنوثةً ) طمع ثالث يضاف إلى ماسبق. والشاعرة في رصدها مطالب تلك الشخصية لاتشنّ الحرب عليها،ولاتطلق النار على رغباتها السطحية مباشرة،بل إنَّها تخرج عن صمتها وتحاول جاهدةً أن تضعها في الإطار الصحيح . لذلك بعد أن أجملتْ الحديث عن تلك المطالب متوخيَّة الإيجاز المكثف رأتْ أن تخاطبه بطريقة لبقة لاتخلو مما يسمَّى بالعصف الذهني: ( فدعْ صوتَ الرياح يثير روحاً ‏يعج بخافقٍ ليهيج شوقا) فهي تدعوه إلى يقظة الروح هنا ،وتطلب إليه أن يمنح الرياح الطبيعية ذات النسمات الرقراقة فرصة تنبيه عواطفه المتبلدة وإخراجها من الأسوار القاتمة التي تقبع داخلها إلى الفضاءات الرَّحبة . وفي الوقت نفسه تريد لهذا الخافق أن يستشعر صوت الرياح ،حيث إنَّ عجيجه إذا أمكنه النفاذ إليه سيوقظ شارات الشوق الغافية التي ستكون ثمارها المرئية على المستوى الاجتماعي المصداقية والسخاء القلبي واللطافة وما إليها من قيم جمالية من شأنها أن ترسخ الأواصر الإنسانية بين الأطراف المتنازعة. وتختم الشاعرة نصها بقولها: حيارى يعشقونَ البينَ دمعاً ‏سكارى في بحور الشعر غرقى! وهذا البيت الملتهب الساخر يؤكد عدم رضا الشاعرة عن ذلك النموذج الذي طرحته في النص . ويؤكد كذلك على اتساع مساحة من يشبهونه في الأسلوب وفي العادات غير اللبقة في نظر الشاعرة ؛وآية ذلك قولها فيما يشبه لغة التعميم :( حيارى،سكارى). ففي الحيرة-على حد تعبيرها- يعشقون الفراق وتنائي المحبين عن بعضهم البعض، ووسيلتهم حينذاك أنهم يسكبون الدموع المدرارة تظاهراً بالحنين إليهم ،فإذا زعموا وسوَّلت لهم أنفسهم أنهم سيكتبون شعراً معبراً مؤثراً في منظورهم هم غرقواً سريعاً في لجج بحوره المتلاطمة غرقاً لا نجاة من بعده،ذلك لأنَّ مهارة السباحة لديهم في عالم الشعر وحدائقه المونقة مفقودة تماماً لديهم ،كما أنهم يفتقدون إلى الرصيد الإنساني الزاخر الذي تستثمره لغة الشعر وتطلقه في الآفاق بواسطة حروفها الألاقة. _______ بعض السمات الفنية الواردة في النص: -عاطفة الشاعرة على قدرٍ عال من الاتزان وضبط النفس. -استثمار عنصر المواجهة المتوسطة بين درجتي الحدَّة واللين لمحاولة كشف الأمور الملتبسة في نظر الآخر ،والوقوف على حقيقة أسراره. -التشبيهات والمجازات والصور لها حيَّز معين في النص كاستخدام الكاف في كلمة(كالأعناب) -الانسيابية في الألفاظ الموحية ووحدة الموضوع في القصيدة . -التشخيص الفني وارد في النص،كمافي لفظة الليالي الشبيهة بالشمس على مستوى نشر الدفء و في الفضاء العائد بالأماني. -خصوبة خيال الشاعرة ملمح واضح في النص. -رؤية الشاعرة تتضمن أيضاً سخريةً لاذعة من بعض الألاعيب المكشوفة المتمثلة في غوايات الأماني كما في قولها:(إلى كل النساء تهيم دِفقَا) -وردت في النص ألفاظ ذات طبيعة كونية: «كالليالي،الأفلاك، بدر،فضاء، رياح»،وهي مفردات تشي بنظرة الشاعرة الحميمية إلى الوجود،ودفْعها الآخر إلى إعمال الفكر في حركتها النَّشطة الدائبة للتأسِّي بها ومن ثمَّ توسيع مداركه وعدم تأطيرها أو تضييق الخناق عليها وبذلك يستطيع الخروج بسلام من الدوائر الشكلانية وسلبياتها العقيمة. وفي ختام هذه الدندنة أشكر الشاعرة المبدعة على ترجمة فيض نغماتها الشعرية في لغتها الرشيقة الحالمة الشاهدة لها بالاستقلالية. وعلى إبحارها بناكمتلقين على أجنحة الإبداع الأصيل المتصل بنظرة المرأة الكونية للأشياء ،وتعاملها مع قضاياها الإنسانية خلال رحلتها في مدائن لغة الضاد وأقاليمها الواسعة. وأرجو أن أكون قد وفقت في تسليط الضوء على بعض جماليات نصها السيمفوني،والله ولي التوفيق.

مشاركة :