د. عبدالله الغذامي يكتب: اشتعال الأفكار/ وجع الكتابة

  • 6/8/2024
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

أُشفِقُ عِندَ اِتِّقادِ فِكرَتِهِ عَلَيهِ مِنها أَخافُ يَشتَعِلُ هذا بيت للمتنبي جاء في المكان الخطأ، ولعله ظل يبحث عن مكانه ولما يزل، والعجب أنه لم يدخل ذاكرة الثقافة، فلم يقتحم ذاكرة الاقتباسات رغم عظمة شأنه مفرداً، والسبب هو أن النسق الشعري قتله لأنه ورد في سياق المديح وسط جمل شعرية (غير شاعرية) وغير مشتعلة فأطفأته ولنقف على جملته الشعرية التي ورد فيها: يَكادُ مِن طاعَةِ الحِمامِ لَهُ يَقتُلُ مَن مادَنا لَهُ أَجَلُ يَكادُ مِن صِحَّةِ العَزيمَةِ ما يَفعَلُ قَبل الفِعالِ يَنفَعِلُ تُعرَفُ في عَينِهِ حَقائِقُهُ كَأَنَّهُ بِالذَكاءِ مُكتَحِلُ أُُشفق عِندَ اِتِّقادِ فِكرَتِهِ عَلَيهِ مِنها أَخافُ يَشتَعِلُ أَغَرُّ، أَعداؤُهُ إِذا سَلِموا بِالهَرَبِ اِستَكبَروا الَّذي فَعَلوا وهذا مديح يحمل الرغبة بالتزلف للمدوح وغاية غاياته الحصول على أعطيةٍ متوقعة كلما بلغ المديح أعلى درجاته، وهي درجة في الكذب وليست في صناعة الحقيقة، غير أن البيت مفرداً ومعزولاً عن سياقة سيكون نوعاً من العدالة المنهجية من باب انتشال النفيس من الخسيس كما في تعبيرات أسلافنا، على أن هذه الجملة الشعرية حاصرت البيت وقتلته وحرمته حقه في سياق الاستشهاد والاقتباس، وكان حقه أن يكون مادةً للتفكر والتبصر بحال الفكرة حين تشتعل في رأس المفكر، وهنا تأتي لحظة المتنبي من حيث لم يقصد. وفي هذه الحال، سنقرأ البيت على أنه تصوير عميق لحال قلق الكتابة، حيث يشتعل الذهن ويتوقد بنار الفكرة العنيدة (حسب السياب)، وهي حال من المعاناة تمر على كل مشتغل (مشتعلٍ) بالأفكار لدرجة أن يحترق فيها ويشتط عقله وهواجسه معها وتحرمه الراحة، ويدخل في قلق كأن الريح تحته (حسب المتنبي نفسه). والقلق الكتابي يأتي من متعة الكتابة بما أن المتعة الحقيقية في الفكر هي أن تقرأ بينما الشقاء أن تكتب، والأشقى من الشقاء ألا تكتب بمعنى أن تكون الفكرة في رأسك فلا تكتبها، وهذا هو الشقاء الذي سيلازمك من حيث تخاف أن تنساها كما تسد أفقك عن التفكر بغيرها فلا أنت ارتحت ولا أنت كتبت، فقط تشحن ذهنك بالفكرة غير المتجسدة نصاً، وهنا ستربكك الفكرة وتشعل الوجع في ذهنك، ويصبح ذهنك معلقاً في الفضاء بين أن تقول أو لا تقول، تكتب أو لا تكتب، وهذه أسوأ لحظة يمر بها الكاتب/الكاتبة، كأن تقول للعصفور لا تغرد، أو للسمكة لا تسبحي، وتظل سائحاً في الفضاء، أو كما يقول أبو الطيب: (عَلَيهِ مِنها أَخافُ يَشتَعِلُ).

مشاركة :