د. عبدالله الغذامي يكتب: سجن الأفكار

  • 2/10/2024
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

هناك تصور عام أن تغيير الأفكار منقصةٌ في الكفاءة العلمية والمنهجية وأنها دليلٌ على الهشاشة العلمية، ولذا جاء المثل الشعبي الذي يقول «الراجل عند كلمته»، أي يلتزم بما قال ويحبس نفسه في قوله، وهنا سأوظّف عبارة «يحبس نفسه في قوله»، وذلك أن الرأي إذا ترجم لكلمات أصبح قولاً أي ليس مجرد رأي بل هو رأي تلبّس بلبوس لغوي يصبح وشاحاً له، وحاله حينئذٍ هي حال أي وشاح نتوشح به وأهم سمات الوشاح أنه يتقادم وإذا تقادم يبلى ويلزمنا استبداله، ولكن القول الذي كان في أصله رأياً يتحول لطوق يطوق قائله، ويرى بعض القائلين أن النجاعة الفكرية هي في البقاء داخل وشاح القول، وأن أي تغيير لن يكون تطويراً بل سيكون تقلبات مذمومة. وهذا تصورٌ فقير منهجياً ومعرفياً ولا أدل على ذلك من أن عظماء التاريخ هم أشجع الناس على تغيير أفكارهم أي أقوالهم لأنهم لا يحبسون أنفسهم في أقفاص الأقاويل السابقة منهم أو من غيرهم من شيوخهم ومعلميهم، وذلك لأن الحياة نفسها متغيرةٌ، ومراحل تحولات العقل متغيرةٌ وفي كل مرحلة علمية ندخل أيضاً في مرحلة عقلية، وإن كنا نقيس عمرنا بالعقود، فإن عقولنا أيضاً تقاس بعدد العقود التي عبرناها، ففي سن الأربعين نطوي أربعة عقود من العمر وأربعة عقود من العقول، وإن التزمنا بما قلناه من قبل فإننا نحبس عقلنا الحالي وفق تشريعات عقل لم نعد نعيشه وتحولنا عنه ولكننا فقط نحبس أنفسنا فيه. ولنأخذ أي مفكر كبير وننظر في مساره الفكري والعمري وسنرى درجات تحولاته، وبعضٌ منها يكون جذرياً. وكذلك فإن السياسة هي الأبرز في أمثلة التحول حيث ترى السياسي يتحول حسب شروط تحولات الأحوال، وكل سياسي عظيم سيكون خلف عظمته تحولاتٌ عظيمة، وهذه سمةٌ من سمات العبقرية وأولها وأزكاها هو التمرد على الذات وكسر سلطة الأنا لتحويلها لأنوات تتعدد حسب شروط التحديات. ولا شك أن أخطر المفكرين هو المفكر العنيد الذي يعاند عقله ووجدانه وحيوية روحه لكي يظل يدافع عن تكلسه وانحباسه الذاتي الذي يشبه حبسة اللسان، غير أن حبسة الفكر أخطر من حبسة الكلام، لأن الثانية تفضي بالضرورة للأولى من حيث إن اللسان لن يدرج بكلمات جديدة مختلفة. وفي النهاية نقول إن الرجل ليس الذي عند كلمته ولكن الرجل والمرأة معاً هما من تتحرك كلماتهم وأفكارهم مع تحركات الأحوال العقلية والأحوال الذهنية تبعاً لتحولات الزمن والمعرفة ومستجدات التفكر، وهنا يحل التفكر محل التفكير حيث التفكر حالةٌ حيوية متصلة بينما التفكير هو خلاصة ما تم وما أنجز، والفكر تصيبه القدامة والركون وانتهاء الصلاحية أو النفعية، ومن هنا يفشل تلاميذ أي معلم عظيم حين يصبحون مجرد شراح له أو حراس لتراثه ويكونون عادة ًمؤدلجين لدرجة أن يتمنعوا عن تطوير أفكار معلمهم أو تقبل الاجتهاد عليها ويتحولون إلى نسخ مكررة فقط تزيد من عدد نسخ كتب معلمهم المطبوعة. كاتب ومفكر سعودي أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض

مشاركة :