د. عبدالله الغذامي يكتب: الوسائل والفكر

  • 3/4/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يشيع التذمر من الوسائل الاجتماعية، وأنها سلبت الفكر رسوخه وجديته، وحولت الخطاب اللغوي إلى هشاشة فكرية وأسلوبية، وجهر بذلك علماء كبار مثل تشومسكي وقبله أمبرتو إيكو، ثم هارولد بلوم، وهم مفكرون حيويون ولهم كلهم سجلٌّ في الوعي المتفتح والحيوية الفكرية، وقد ظللت معترضاً على ملاحظاتهم هذه ووقفت عليها في كتابي «ثقافة تويتر»، وما زلت أعجب من موقفهم هذا، ولعل فكرة التغريدة تحديداً هي التي دفعتهم ودفعت غيرهم لمثل هذه الأحكام، فالتغريدة محكومة بعدد محدد من الحروف، وتطير مسرعةً سابقةً حتى سرعة تفكير صاحبها، فيعتريها ما يعتري السرعة من زلل لغوي وليونة فكرية، ولكن أمر «تويتر» ليس محصوراً بهذه الخاصية، فهناك خاصيتان أخريان مهمتان سيغيران نظرتنا إن نحن ركزنا عليهما، أولهما هي التفاعلية التي غالباً تصحب لحظة التغريد من حيث تجاوب المتابعين والمتابعات الذين يندفعون للتعامل مع التغريدة نقاشاً ومحاورةً، ولن تقف المحاورة مع المغرد الأصلي وحده، بل تتداخل التفاعلات بين كل من كان موجوداً في اللحظة نفسها، ويمتد ذلك لانفتاح متصل على الزمن وتعاقبه وعلى حالات الاطلاع، وتظل فرص التفاعل مفتوحةً من دون قيد، وهذه مزيةٌ معرفية عظيمة لأنها تحفز مهارات الحوار، وتشجع الكل على الدخول من دون وجلٍ ولا تردد، وكأنها هنا تعيد فكرة حواريات سقراط والمشائين بعامةٍ، حيث يظل التحاور بلا نهاية ولا إجابة قاطعة، ثم إن التغريد في تويتر، وإن كان سهل الانطلاق، وسهل الاستقبال وسهل الذوبان مع مرور الوقت، لكنه أيضاً قابلٌ للاستعادة مرة ومرات مما يجعله في حيوية مستمرة، وإن كان الحدث كله يدخل تحت مظنة السهولة وربما الميوعة، فإن تويتر تساعد على نشر الفكر وإن قال بعضنا، إنها لا تنشر الفكر، وعلامة ذلك أن تشومسكي نفسه موجود على تويتر عبر حسابات تنشر فكره وتعطي روابط لمحاضراته، وترصد كثيراً من مقولاته، وليس ذلك حكراً عليه تخصيصاً فكل باحثٍ جاد عرف تويتر أدرك أن تويتر سهلت له الانتشار بفكره وشخصيته ومعجم لغته ومفردات مصطلحاته، كما ساعدته تويتر على ترويض لغته وفكره ليكون سلساً وسهل المتناول. وهذه مزية لم يدركها الكبار من السلف الفكري القديم، وأكاد أتصور سقراط لو تيسرت له وسيلةٌ مثل تويتر كيف سيمارس حواريته مع متابعيه وكيف سيحفز فيهم دهشة الأسئلة ونشوة الشغب المعرفي، وهذه خاصية تويترية في مرحلتنا هذه لمن قصدها وتنازل عن كبريائه العلمية وجعل علمه متاحاً للجموع بدلاً عن قاعات التحاضر المغلقة وسلطوية الطبقية العلمية التي تتصنع الهيبة ظناً منها أن الهيبة شرطٌ للمعرفة، وهي في الحقيقة حجابٌ كثيف ضد نظرية التفكير الحر الذي لا تقنعه الحجب لا في السن ولا المنصب ولا الدرجات العلمية الطبقية، ولو جرب المفكر أن يكون مثل عموم البشر، فلن يجد له منصةً كمنصة تويتر، حيث يعرض عقله ولسانه وذوقه على الناس ويقيس مقام خصائصه بين البشر الذين لا يجدون قيوداً على التفاعل معه، وهذا امتحان عظيم لأي مفكر وتمثل مشروعية فكره في الاستقبال والانتشار والتفاعلية، على أن ما يقوله الكبار ليس بالضرورة كبيراً، وليس بالضرورة صحيحاً ولا قطعياً، وإن كان الكبار ينقض بعضهم بعضاً، فإن الصغار أعلى قدرةً على نقض الكبار وتشريح مقولاتهم لأن الصغير ليس لديه ما يخسره ولكن الكبير مع الكبير يراعيان فرص التفوق وفرص الخسارة كما يتبارز فارسان، فيحتاط كل واحد منهما لنفسه كي لا يقع، ولكن قد يأتي عادي ويسقط فارساً مغواراً لأن لا أحد يملك اللحظة الزمنية وإن ظن أنه يملك القوة، ولا شك أن للزمن ولحظاته قدرات فوق قدرات كل قوي عقلاً أو جسداً. وبالتالي، فهذه الوسائل تساعد على نشر الفكر والتفكر بلا شك، مهما ظننا هشاشتها.

مشاركة :