الاستبداد والتربية - يوسف بن عبدالعزيز أباالخيل

  • 4/20/2016
  • 00:00
  • 42
  • 0
  • 0
news-picture

من الجوانب التي قد يأتي من قبلها الاستبداد، جانب التربية، إذ قد يتربى الإنسان في جو استبدادي لا يتيح له فرص ترق معتدل، فينشأ منحرفاً عن الحياة السوية التي أرادها الله تعالى له بوصفه خليفته في أرضه لا يخلو فصل من فصول كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) للمفكر الشامي: عبدالرحمن الكواكبي من إثارة لأسئلة محرجة تتعلق بتبعات الاستبداد في كل مظاهره. ذلك أنه قسّم كتابه إلى فصول، كل فصل منها يتعلق بجانب من جوانب الاستبداد. وهكذا، فقد يأتي الاستبداد من جانب الأخلاق، كما يأتي من جانب الدين، أو من جانب العلم، أو من جانب المال، أو من جانب المجد. ومن تلك الجوانب التي قد يأتي من قبلها الاستبداد، جانب التربية، إذ قد يتربى الإنسان في جو استبدادي لا يتيح له فرص ترق معتدل، فينشأ منحرفاً عن الحياة السوية التي أرادها الله تعالى له بوصفه خليفته في أرضه. في البداية، يقرر الكواكبي أن الإنسان أقرب إلى الشر منه إلى الخير. والدليل، كما يذكر، أن الله تعالى لم يذكر الإنسان في القرآن إلا وقرن اسمه بوصف قبيح، كظلوم وغَرور وكفار وجبار وجهول وأثيم. ومن الآيات التي يستعرضها كدليل على ما يقول قوله تعالى: "قتل الإنسان ما أكفره"، وقوله تعالى: "إن الإنسان لكفور"، وقوله تعالى: "إن الإنسان لفي خسر"، وقوله تعالى: "إن الإنسان ليطغى"، وقوله تعالى: "وكان الإنسان عجولا"، وقوله تعالى: "خلق الإنسان من عجل". وهذه الرؤية للإنسان، التي ترى أنه شرير في أصل تكوينه، لمما يتفق مع أقرب الرؤى الفلسفية للواقع، والتي تقضي بأن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، كما يقول الفيلسوف (توماس هوبز). كما يصدقها الواقع الإنساني، إذ ما إن ترتفع قبضة السلطان، إلا ويُظِهر الإنسان أسوأ ما يمكن أن يتحلى به مخلوق، من الصفاقة واللؤم وقبح العمل ورداءة الخلق وسحق لكرامة أخيه الإنسان. ومع أن ثمة رؤية فلسفية أخرى تقول إن الإنسان خيِّر بطبعه مالم تقلب الظروف المعاشة خيريته إلى شر، إلا أن التاريخ الإنساني يؤكد الرؤية الأولى، وينفي، أو يكاد، الرؤية الثانية! بماذا تحصل التربية؟ التربية، كما يقول الكواكبي، ملكة تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس. وأهم أصولها وجود المربين، وأهم فروعها وجود الدين. يقول الكواكبي: "جعلت الدين فرعاً لا أصلاً، لأن الدين علم لا يفيد العمل إذا لم يكن مقروناً بالتمرين. وهذا سبب اختلاف الأخلاق من علماء الدين في الإسلام عن أمثالهم من البراهمة والنصارى". وهنا يضع الكواكبي أصبعه على مشكلة كبيرة صاحبت انحطاط الحضارة العربية الإسلامية، ألا وهي التركيز على الأوامر والنواهي الدينية نظرياً، وعدم ترسخها في اللاوعي الجمعي كسلوك تلقائي. بمعنى أن ما يقود السلوك الفردي والجمعي ليس هو الدين بذاته كما نزل، بل ما بقي في اللاوعي الفردي والجمعي من قيم صنعتها السياقات السياسية والاجتماعية، وبصفة عامة: السياقات الحضارية. وهنا لا يكون من الضروري أن ما وقر في اللاوعي من القيم متوافقاً مع قيم الدين بذاته، بل قد تكون مخالفة له بالكلية، وصاحبها يحسب أنه على شيء. إذا أثير خلاف أو نقاش نحو مسألة ما مثلاً، كتأخر المسلمين مقارنة بغيرهم مثلاً، لا يستنكف المسلم الغيور على دينه أن يستعرض الآيات والأحاديث الدالة على محفزات التقدم، وهذا ليس هو محل الخلاف، بل الخلاف في ما تبرمج في اللاوعي من قيم قد تكون محفزة للتقدم، وقد تكون محفزة للتخلف. يتحدث الكواكبي عن الدين في قسميه: الأخلاق والعبادات. فيذكر أن الاستبداد يفسد الدين في جانبه الخلقي، لأن هذا الجانب هو عماد الحضارات. والجانب الخلقي المتحدث عنه هنا معني في الجانب الحضاري بكليته. أما العبادات فإنه والكلام للكواكبي،لا يمسها، لأنها تلائمه أكثر. ولهذا تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة صارت مع تصرم الأيام عادات لا تفيد في تطهير النفوس شيئاً، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر، لفقد الإخلاص فيها، تبعا لفقده في النفوس التي ألفت أن تتلجأ وتتلوى في زوايا الكذب والرياء والخداع والنفاق! في مسألة التربية، لا يتوقف الأمر على التربية النظرية التي تُعطى للتلاميذ في المدارس، أو في الحلقات، أو للناس عموماً في المساجد، ومجالس الذكر، فهذه لا تشكل شيئاً يذكر أمام تربية الظروف المحيطة والسياقات العامة، أو تربية الهيئة الاجتماعية، كما هي لغة الكواكبي. وهذا يشبه ما أشار إليه عالم الاجتماع العراقي الدكتور(علي الوردي) في كتابه(خوارق اللاشعور) من أن الإطار الفكري الذي يفكر الإنسان من خلاله محكوم بقيود، من ضمنها القيود الاجتماعية، التي تشكل إطاراً لا يستطيع الإنسان أن يتخطاه مهما غرف من علوم التربية والأخلاق، وهذا يناظر ما أشرنا إليه بما وقر في اللاشعور الفردي والجمعي. لمراسلة الكاتب: yabalkheil@alriyadh.net

مشاركة :