صحيح أن العالم مليء بالعبر، وستمر العبرُ بلا طائل؛ لو لم يتم الاعتبار بها. لذا، معرفة ما يجري بهذا العالم ضروري ونحن نستعد للتغير الكبير في كل فلسفة اقتصادنا الذي كان لعقود متكئا على مسند عملاق وحيد هو النفط. وكنا نعتقد أنه ما زال باكرا نضوب النفط فلم تكن هناك تطبيقات جادة لعصر ما بعد النفط، رغم أن خططا كتبت ونظريات قيلت حول ذلك، إلا أن بُعد توقع وقوع الخطر جعل كل ذلك مجرد خطط ورؤى لم تخرج من محابسها النظرية لتكون واقعا على الأرض. ثم باغت الصناعة النفطية في العالم التدهور الحاد في سعر البرميل النفطي وتبخرت مئات بلايين الدولارات في الهواء، وسُجلت عجوزات كبرى هبطت صاعقة على رأس الاقتصاد النفطي واكتظت مخازن النفط بالعالم وفاضت. وهنا أمر بحدين، إما وضع كارثي أو كما يقال تحويل المحنة إلى منحة. تكلمت في البداية عن العبر في العالم، وبعض العبر في دولٍ تكون مثل كواشف عواقب المستقبل لدول أخرى، فتعتبر بها وتحرص ألا تحدث تلك العواقب في مستقبل اقتصادها ومعاش أجيالها. فنزويلا ليست بعيدة الشبه اقتصاديا عن المملكة، فهي رغم طبيعتها الثرية اعتمدت باقتصادها على النفط وازدهرت لعقود؛ مما جعل الكاتبة المتفوقة التشيلية إيزابيل ألِندي تطلق عليها اسم «سعودية أمريكا الجنوبية». كما أنه كان حلم معظم الناس بدول القارة الهجرة أو العمل بفنزويلا. ويصل الشبه أن عدد سكان فنزويلا الثلاثين مليونا يقارب مجموع سكان المملكة العربية السعودية. لكن لما تهاوت أسعار النفط وكسرت حاجز الأربعين دولارا هبوطا، فوجئت الأمة الفنزويلية أنها لا تملك خطة خروج من المأزق الكارثي وصارت بمدة قليلة من أسوأ اقتصاديات العالم، بل أن تقرير لبلومبيرج وصفها بالأكثر بؤسا في العالم على الإطلاق! «The most miserable» فسبحان مقلب الأحوال. هل يمكنكم تصور أن معدل التضخم الحالي بفنزويلا وصل إلى 150%؟! وأن البنك الدولي تنبأ أن هذا التضخم المخيف بحاضره سيصل إلى 720% على نهاية هذا العام؟ استر يا ستار. انخفاض أسعار النفط الحادة أيقظنا على حقيقة وهي أن الاعتماد على مصدر وحيد للعيش انتحار اقتصادي، لذا كان للمجلس الاقتصادي الجديد في المملكة والذي يترأسه ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، مبرر وجود، ويرتكز وجوده على صنع عربة تنقلنا بصفة دائمة إلى اقتصاد بديل بطموح تنموي وبمغامرة لم نعهدها من قبل، يعتمد المصادر المتعددة والدائمة لتجنب المزلق الاقتصادي، فجاءت خطة برنامج المستقبل بنقاشات وورش مفتوحة بمشاركة القطاعات المختلفة بالدولة؛ لوضع تصوراتهم، وتوجه المجلس الاقتصادي لبيوت الاستشارات الدولية وقاد هذا التوجه وزير التخطيط، وتكلفنا هذه الاستشارات مئات الملايين. هذا الوعي جاء بالوقت المناسب، والخطط القادمة التي ستعلن على الملأ قريبا ستتطلب منا جميعا الصبر والتفهم لتحديات الطريق، الذي لا بد أن نمر به، والطريق لن يكون حريريا مبسوطا، ولكن هو الطريق الوحيد لبناء اقتصاد صامد للمستقبل. وكي نعتبر ونتجنب أن نكون فنزويلا أخرى!
مشاركة :