كأني بالآلة الإعلامية نست أو تناست البلداني والمؤرخ والمحقق الشيخ عاتق بن غيث البلادي (1352 – 1431هـ) وألقته في غياهب النسيان بعد أن سلخ من عمره سنوات طويلة باحثاً بين مصادر التاريخ ومراجعه، ومحققاً لجمهرة من أمهات الكتب المكية، وجائلاً بين الوهاد والنجاد أو بين البيد والشعاب لا يبرحها إلا بعد أن يتثبت في أمر غلبه فيه الشك أو ساوره فيه ظن أو أراد أن يتيقن عن موضع غفل عنه البلدانيون، ناهيك عن عشقه للمواقع التي حفت بالآثار والمعالم التاريخية وباتت شغله الشاغل حتى يجلو عنها ما تضاربت فيها أقول المحققين من مؤرخين وجغرافيين ونسابة، فلا هم له سوى الوقوف على الحقيقة الدامغة بوصفها مطمح كل باحث، ولقد عرف شيخنا - رحمه الله - بعشقه في البحث عما يخص الحجاز ولا سيما مهبط الوحي (مكة المكرمة) التي قضى فيها طفولته، وغشى حلقات العلم في المسجد الحرام ينهل من مشائخها أو يتردد على مدارسها النظامية، فانساب حب العلم والمعرفة إلى فؤاده وسرى التعلق به في نفسه، فشمر عن ساعديه، واِلتفت صوب التأليف واتجه نحو التحقيق، وكان ميدانه التاريخ والجغرافيا والأنساب وقرض الشعر أيضاً ليخرج للمكتبة العربية جمهرة من التصانيف نافت عن الأربعين كتابا وحسبي أن أقول أنه صاحب (معجم معالم الحجاز) ذي العشرة أجزاء. ثم ارتأى أن يؤسس داراً للنشر يصدر عنها مؤلفاته وتحقيقاته وغيرها من كتب المؤلفين الآخرين، لذلك كان الشيخ البلادي على مدى عمره لا يلتفت إلى تكريم ولا ينتظر من أحد تقدير، كان همه الوحيد إنجاز ما يشغله في دنيا الكتابة والتأليف، بل لا يخرج من بيته إلا للبحث عن المعالم والآثار بين الأودية والجبال فيضرب لها مئات الأكيال مستمتعاً بما يخلص عن هذه الرحلات العلمية والتي عرف بها في نجد ثلة من علمائها الكبار أمثال المشائخ: الجاسر وابن خميس وابن جنيدل وهو يلتقي معهم على منهل واحد وينزعون من مشكاة واحدة وقد أمضى البلادي حياته في هذا العشق متغلباً على ما يتكادءه من العقبات، وهذا ما يؤكده الباحث والأديب عائض الردادي حين وَصْفِه للشيخ عاتق البلادي: أنه لا يعتمد على النقل بل يقطع آلاف الأميال ليقف على المواضع ويحددها ويصفها بما هي عليه الآن. ولكنك حين تتفرس جمهرة مؤلفاته تجد كل كتاب يدعوك لقراءته والكتابة عنه لما يحمله من متعة وفائدة وعلم وافر، وأنا اليوم هنا سأتناول كتابه الباذخ (معالم مكة التاريخية والأثرية) الذي أوقفه على كل موقع تليد يحيط بأم القرى، وهو لعمري جهد كبير لا يقوم به إلا الراسخون في العلم. ينهض هذا الكتاب على تعريف كل معلم قديم فيسوق له الكتابات التاريخية والشواهد الشعرية ويجمله بالآيات ويحليه بالأحاديث وما ورد عنه عند الإخباريين مثل: المساجد والجبال والآكام والأودية والثنيات والرياع (جمع رِيع) والآبار والعيون والتلاع والمفاوز والشعاب والحِرار (جمع حَرّة) والفجاج، فهو بذلك يعود إلى كم كبير من المصادر والمراجع في التاريخ والجغرافيا والأدب وكتب الأخبار التي أودعها نهاية الكتاب. ونحن من هنا سنتناول بعض هذه المعالم التي قد عرف القارئ بعضها وسيتعرف على البعض الآخر الذي ربما قد سمع به ثم عاجله فيها النسيان. أبو قبيس: من أشهر جبال مكة مع أنه ليس من أكبرها، يشرف على المسجد الحرام من مطلع الشمس وهو بين شعب علي وبين أجياد، وهو من الجبال المأهولة وعلى قمته مسجد بلال وهو غير بلال بن رباح. إدام: واد فحل من أودية مكة على بعد (57) كيلاً نحو الجنوب يسيل من جبال راية ويصب في الخبت عند طفيل. الأشطاط: غدير معروف قرب عسفان وفيه قال ابن قيس الرُقيّات: فغدير الأشطاط منها محل فبعسفان منزل معلوم صدروا ليلة انقضى الحج فيهم حُرة زانها أغر وسيم البانَة: حول مكة ثلاث بانات هي: بأنة شعب من ثور في ديار قريش، وبانة شعب في ديار هذيل، وبانة أحد قمم جبل كنثيل بين الشرائع ونخلة اليمانية. البَوْباة: وهي تعرف اليوم بالبُهَيتة وتقع في صدر نخلة اليمانية تخرج منها على السيل الكبير وهو ميقات أهل نجد. التنعيم: واد ينحدر شمالاً من جبال بشم شرقاً وجبل الشهيد جنوبا، وهو ميقات لمن أراد العمرة من أهل مكة، وقال فيه الراعي النميري: فلم تر عين يمثل سرب رأيته خرجن من التنعيم معتمرات مررن بفخ ثم رحن عشية يلبين للرحمن مؤتجرات ثَبِير: معظم جبال مكة الكبار تسمى الأثبرة كثبير الأحدب وثبير الزنج وهو ما يعرف اليوم بجبل عمر وجبل الناقة وثبير الخضراء وثبير الأعرج وثبير ثوْر . الجِعْرانة: وهي اليوم قرية صغيرة في صدر وادي سرف، ويعتمر منها أهل مكة مثلما اعتمر منها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. حدّاء: هي قرية تقع بين الحديبية وبحرة، كما يوجد موضع آخر يحمل نفس الاسم جنوب يلملم وهو جبل للجحادلة. الحزْوَرَة: رابية صغيرة كانت سوقا لمكة ثم دخلت في المسجد الحرام، قال فيها الغنوي: يوم ابن جدعان بجنب الحَزاوِرة كأنه قيصر أو ذو الدسكرة خُمّ: بئر كانت بمكة لكلاب بن مرة، ثم أصبحت مكانا للمكيين يخرجون إليها إذا أمطرت متنزهين. دُفاق: واد لهذيل يسيل (32) كيلاً جنوب مكة. قال دريد بن الصمة: ولو أني اطلعت لكان حدي بأهل المرختين إلى دُفاق الزّيْمة: هي عين عذبة بوادي نخلة على بعد (45) كيلاً صوب طريق الطائف وهي متنزه لأهل مكة. شِرْيان: ريع يسيل منه واديان أحدهما شمالاً والآخر جنوباً فيذهب نحو الليث ويسكنه بنو فهم بن عمرو. صُفَيّ السِباب: أكمة صخرية بالمعابدة تشرف على الخرمانية من الشرق، ويقال في أمر تسميتها: إن أهل مكة كانوا يخرجون إليها ليتماروا ويتسابوا إذا اختلفوا في شيء. ضَجْنان: حرة مستطيلة يمر بها الطريق من مكة إلى المدينة وتسمى اليوم برقاء الغميم. طُوَى: بئر بجرول بين القبة وريع أبي لهب وهو مكان بات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فتح مكة. عَرْعَر: واد يصب في وادي نعمان ينبع من جبال سحار به بيوت ومزارع لهذيل قال فيه الأبح بن مرة الهذلي: لعمرك ساري بن أبي زنيم لانت بعرعر الثأر المنيمِ عليك بنو معاوية بن صخر وأنت بمربع وهم بضيم عيْن زُبيدة: عين عذبة الماء غزيرة، أجرتها السيدة زبيدة زوج هارون الرشيد، تنبع من وادي نعمان وتمر على عرفات فتقطع وادي عرنة إلى الخطم ثم تنحدر إلى منى وكانت سقيا أهل مكة. الغَبْغَب: هو الموضع الذي ينحرون فيه بمنى وقيل أنه بيت لمناف كان مستقبلا الركن الأسعد. الغُمَيرْ: محطة كانت لحجاج العراق ثم سميت الرقّة، يجتمع في بركها الماء. قَرْدَد: شعب يصب في وادي نخلة، بين يسوم وجبل الشاخص. كَداء: ثنية تعرف اليوم بريع الحجون، تفصل بين جبل قعيقعان وجبل الحجون وكانت هذه الثنية كأداة شاقة المسلك، قال الأحوص الأنصاري فيها: رام قلبي السلو من أسماء وتعزى وما به من عزاء إنني والذي تحج قريش بيته سالكين نقب كداء لم ألم بها وإن كنت منها صادرا كالذي وردت بداء لَبَنَان: وهما جبلان قرب مكة يقال لأحدهما لبن الأسفل وللآخر لبن الأعلى. المَجاز: من أسواق العرب الشهيرة شمال عرفة وقريب من الشرائع، وقال المتقدمون: إنه سوق لهذيل يقام قبل يوم عرفة بثمانية أيام، وأنشد المتوكل الليثي: للغانيات بذي المجاز رسوم في بطن مكة عهدهن قديم فبمنحر البدن المقلد من منى حِللٌ تلوح كأنهن نجوم لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيم مسجد البيعة: هو مسجد بأعلى مكة ويقال له مسجد الجن ويسميه أهل مكة مسجد الحرس وقد بايع فيه الأنصار النبي صلى عليه السلام مرتين، كما يقال: إن الجن بايعوه فيه أيضاً. دار الندوة: أول دار بنيت حول البيت العتيق بناها قصي بن كلاب حوالي (200 ق هـ) وجعلها مقر حكمه ثم أدخلت في المسجد الحرام عند ما يسمى باب الزيادة أمام حي الشامية. يَلَمْلَم: واد فحل من أودية مكة يأتي من السراة ثم يصب في ساحل جدة، وهو ميقات أهل اليمن على طريق تهامة ويسكنه اليوم بنو فهم والجحادلة. والكتاب في جملته مليء بالأماكن والمواضع والمعالم الموغلة في التاريخ ويكفي أن يقرأ المتعجل المتسرع هذا الكتاب ليعلم مقام العالم الجليل الشيخ عاتق البلادي - رحمه الله - في ميادين التاريخ والآثار والبلدانيات. عاتق بن غيث البلادي
مشاركة :