غالبًا ما تبدأ القمم بأنواعها كافة وتنتهي كما بدأت، لا قيمة سوى كلمات ألقاها القادة المشاركون أو من ينوب عنهم من رؤساء حكومات أو وزراء خارجية أو ما دون هذا وذاك، والأمر الأكثر مرارة هنا، هو ما كانت تعول عليه الشعوب التي تنتمي دولها لهذه القمة أو غيرها في تغيير مستقبلهم الى الأفضل، فكل هذه الأمنيات تذهب هباء، ناهيك عن بيانات ختامية مكررة تحمل آماني لا تتحقق وتكاد تكون صورة طبق الأصل لما قبلها، حتى إن الصحفيين المخضرمين الذين يغطون هذه القمم يتنافسون فيما بينهم في صياغة مشروعات بيانات القمة، من كثرة ما قرأوا وشاهدوا وعملوا. ربما كانت مقدمتي هذه ضرورة لما سأسرده لاحقًا بشأن القمة الإسلامية الأخيرة التي استضافتها المدنية التركية العريقة إسطنبول، فقد فاجأتنا بأنها على غير عادة العرب والمسلمين، شكلاً ومضمونًا، إذ قررت بصورة مغايرة تمامًا عما سبقها من لقاءات، توجيه انذار حقيقي الى كل من يحرض على الإرهاب ويمارس سياسة الضغط على الجيران ويتدخل في شؤونهم الداخلية بالمخالفة للمواثيق والأعراف الدولية. ولعل قمة إسطنبول بدأت وانتهت بالمضامين والمحاذير التي شملتها كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، إذ تضمنت تحذيرات غاية في الأهمية مما كان لها أثر كبير على مضمون البيان الختامي الذي استمد روحه الأساسية من هذه الكلمة، حيث شدد على أن ما يمر به العالم الإسلامي من فتن وانقسامات وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية واستخدام الميليشيات المسلحة٬ بهدف زعزعة الأمن والاستقرار٬ يتطلب منا وقفة جادة لمنع تلك التدخلات وحفظ أمن وسلامة الدول الإسلامية. ومن ثم، طالب الملك سلمان من قادة الدولة الإسلامية بمعالجة قضايا الأمة٬ وكان يعني بذلك القضايا العربية في المقام الأول، وبطبيعة الحال القضايا التي تؤلمنا جميعًا نحن معشر العرب، مثل الأزمات المستحكمة في سوريا والعراق واليمن وليبيا. وكان من الحكمة المشهودة دائمًا للملك سلمان، أن تطرق بأسلوبه السلس الى لب القضية أو الأزمة التي نعانيها نحن العرب والمسلمين، خاصة عندما طالب وبلهجة حاسمة وحازمة بوقفة جادة لمنع التدخلات والطائفية واحترام علاقات حسن الجوار بين بين الدول وأن يكون قوامها عدم التدخل في شؤونهم الداخلية. ولعل من كلمة الملك سلمان القوية ولهجته التي تنم عن تحذير شديد اللهجة للجمهورية الإيرانية، فقد دانت منظمة التعاون الإسلامي في ختام قمتها تدخلات إيران في الشؤون الداخلية لدول المنطقة٬ منها البحرين واليمن وسوريا٬ بهذا بالاضافة الى ادانتها أيضا بأنها السبب في استمرارمن نشهده ونعانيه من إرهاب بسبب دعمها لمرتكبي العمليات الإرهابية في دولنا. وكان من الطبيعي أن يعرج البيان الى صنيعة إيران في المنطقة الممثلة في منظمة حزب الله التي تأتمر بتعليمات مباشرة من قم، فكانت اللهجة أشد لقيامها بأعمال إرهابية في سوريا والبحرين والكويت واليمن٬ ولدعمها حركات وجماعات إرهابية تزعزع أمن واستقرار دول أعضاء في المنظمة. ولنتوقف هنا برهة، ولنتذكر معًا قرار مجلس وزراء الخارجية العرب الأخير بالقاهرة، عندما ربط حزب الله بالإرهاب، فهنا يضاف (المسلمين) أيضا الى (العرب)، ولتتفق كلمتهم وتتوحد حيال هذه الجماعة الخارجة عن القانون التي تعيث فسادًا وإرهابًا في دولنا، وربما لا تعلم هي ومن يمولها ويكلفها بأعمالها السوداوية أن مثل هذه العمليات لن تثنينا عن دعم القضايا القومية في وطننا العربي ولن نتخلي عن شعبنا العربي في سوريا والعراق واليمن. ويبدو جليًا أن كما أسلفنا، أن قمة إسطنبول ليست مثل غيرها من القمم المعتادة التي ألفناها كلمات فقط وبيانات خالية من المضمون والمعني اللهم سوى بعض السطور المتراصة بجوار بعضها كضرورة مكملة لعمل القمة أمام الشعوب، ولكن في هذه القمة الأخيرة كانت التحذير شديدًا، وكان لإيران نصيب الأسد من تلك التحذيرات، إذ أكدت القمة أهمية أن تكون علاقات التعاون بين الدول الإسلامية وإيران قائمة على مبادئ حسن الجوار٬ وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول٬ واحترام استقلالها وسيادتها ووحدة أراضيها٬ وحل الخلافات بالطرق السلمية٬ وفقًا لميثاق منظمة التعاون الإسلامي وميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي٬ والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها. وهذا يتطابق بصورة كاملة مع ما حذر منه ونبه إليه الملك سلمان، فالقمة أعلنت وبصراحة شديدة دعمها جهود المملكة العربية السعودية وجميع الدول الأعضاء في مكافحة الإرهاب بكافة أشكاله وصوره٬ وكذا دعمها للتحالف العسكري الإسلامي لمكافحة الإرهاب ودعوة الدول الأعضاء المهتمة إلى الانضمام إليه. نعود للقمة ذاتها التي أدانت بصورة قاطعة جميع الأعمال والطرق والممارسات الإرهابية أيًا كان مقترفها٬ وتعني ما يتم في منطقتنا وخارجها في أوروبا وغيرها من بقاع العالم، مما يلقي على المجتمع الدولي مهمة عاجلة تتركز في ضرورة في اتخاذ تدابير قوية وسريعة لمواجهة هذا الإرهاب الذي يقضي على الأخضر واليابس، فالحرب على الإرهاب أصبحت أولوية كبرى لجميع الدول، ومنع الأعمال الإرهابية وقمعها لن يأتي سوى عن طريق زيادة التضامن والتعاون الدوليين. لقد شعرت أثناء انعقاد قمة إسطنبول، أنها موجهة أسلحتها تمامًا نحو طهران، ولهذا لم يكن غريبًا على الوفد الإيراني للقمة الاعتراض على تخصيصها أربعة بنود تنتقد بلاده صراحة لجهة تدخلاتها في الشؤون الداخلية للدول العربية٬ وبند خامس لإدانة الأعمال الإرهابية لما يسمى حزب الله اللبناني. وترجم الاعتراض الإيراني بعدم حضور الرئيس حسن روحاني الجلسة الختامية للمؤتمر٬ لكن من دون إطلاق أي تصريحات نارية٬ ليس حرصًا على عدم التشويش على الرئاسة التركية للقمة، ولكن لأن الجمهورية الإيرانية رأت أنه من الصواب ترك عملية الاعتراض لغير الوفد الرسمي، لينوب عنه في هذا الأمر مندوب وزارة الخارجية الإيرانية الذي يتركز عمله في هذه الآونة على شجب كل من يدين بلاده أو يعترض على تصرفاتها. وإذا كان روحاني والوفد المرافق له انسحبوا من الجلسة الختامية احتجاجًا على وجود بنود تدين بلاده، فإن مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون الدولية والقانونية٬ عباس عراقجي٬ تولى أمر الاحتجاج غير الرسمي عبر تصريحات اعتدنا عليها، خاصة عندما حاول التقليل من أهمية موقف قمة إسطنبول من بلاده.. وبالرغم من انسحاب روحاني ووفده في هدوء، فإن وكيل خارجيته وصف الأجواء السائدة في قمة منظمة التعاون الإسلامي في الظروف الراهنة بأنها لا تؤشر على التعاون بين الدول الإسلامية ووحدة العالم الإسلامي.. ولم يتوقف مندوب الخارجية الإيرانية عن غيه، إذ ربط السعودية بالضغط الذي فرضته القمة على بلاده، وكان هذا واضحًا في قوله: البنود الأربعة المعادية للجمهورية الإسلامية الإيرانية قد أدرجت خلال الاجتماع التحضيري بجدة الذي تغيبت عنه إيران، وذلك في محاولة لتبرير وجود البنود الأربعة التي أدانت إيران في البيان الختامي. إجمالاً.. ما يتوجب علينا عمله في الوقت الراهن هو ضرورة أن تكون قمة إسطنبول مقدمة للوحدة والتضامن المطلوبة لتجاوز الظروف الصعبة التي يمر بها العالم الإسلامي، وأن نعمل من أجل تحسين صورة الإسلام في وقت ارتبط الإرهاب ببعض المنتسبين إليه وديننا منهم بريء. وكذلك يجب إنهاء الخلافات المذهبية والعرقية والتي تشكل المشكلة الأخطر التي تهدد العالم الإسلامي. ولعلنا نختتم بما قاله الرئيس التركي خلال القمة وهو قول يفيدنا جميعًا بلا شك إذا طبقناه عن وعي: لمن المحزن أن نذكر حضارة بنيت على أركان السلام والاستقرار٬ اليوم٬ إلى جانب الإرهاب والطائفية والصراعات الداخلية.. نحن فيما يتعلق بالمذهبية لسنا شيعة ولسنا سنة٬ لدينا دين واحد٬ هو الإسلام٬ أنا مسلم.
مشاركة :