انتهى نجيب محفوظ من كتابة أولاد حارتنا في إبريل/نيسان سنة 1959، وقبل أسبوع من بداية النشر كتبت الأهرام في صفحتها الأولى بتاريخ 14 سبتمبر/أيلول 1959 خبراً تحت عنوان الأهرام تنشر قصة نجيب محفوظ الجديدة، وفي متن الخبر: اتفق الأهرام مع نجيب محفوظ كاتب القصة الكبير على أن ينشر له تباعاً قصته الجديدة الطويلة، إن نجيب محفوظ هو الكاتب الذي استطاع أن يصور الحياة المصرية تصوير فنان مقتدر مبدع، لذلك فإن قصته كانت حدثاً أدبياً بارزاً في تاريخ النهضة الفكرية في السنوات الأخيرة، ولقد وقع الأهرام مع نجيب محفوظ عقداً يصبح للأهرام بمقتضاه حق النشر الصحفي لقصته الجديدة مقابل ألف جنيه، والأهرام لا يذكر هذا الرقم، وهو أكبر رقم دفع في الصحافة العربية لقصة واحدة، تفاخراً أو ادعاء، وإنما يذكره ليسجل بدء عهد جديد في تقدير الإنتاج الأدبي. قبل نشر أولاد حارتنا بيوم واحد أي في 20 سبتمبر 1959 كتبت الأهرام تحت عنوان قصة نجيب محفوظ ستبدأ في الأهرام غداً وفي المتن أيضا: تبدأ الأهرام غداً في نشر قصة نجيب محفوظ أولاد حارتنا وقد اختار الأهرام الفنان الكبير الحسين فوزي ليرسم القصة، وإذا كان نجيب محفوظ ينتزع مشاعره وانفعالاته ويستلهم وحيه من صميم حياتنا، فإن خطوط الحسين فوزي تخرج من المصدر نفسه. وفي حوار أجرى مع هيكل - رئيس تحرير الأهرام آنذاك - قال: بعد أسبوع واحد من النشر بدأت المشكلات في صورة نقد جاء مباشرة إلينا، وفي خطابات حملها البريد، وبعد شهر بدأت الأصوات ترتفع، وبعد شهر ونصف الشهر وجدت جمال عبدالناصر يكلمني في التليفون، وقال: إن الأزهر أو وزارة الأوقاف - لا أذكر - كلموني عن الرواية، سألته: هل قرأتها؟ قال: قراءة الأعمال الأدبية مسلسلة لا تريحني، سأقرأها بعد نشرها في كتاب. وقال هيكل: أردت أن أكسب وقتاً لاستكمال نشر ما بقي من الرواية، فقلت لعبدالناصر: خليهم يعملوا لجنة من رجال الأزهر ويفحصوا الرواية، وقد جاء قرار اللجنة بمنع النشر، وكان ذلك قبل عشرة أيام من انتهاء النشر لكن النشر استمر حتى نهاية الرواية، وقد حرصت على أن أختم الحلقة الأخيرة بعبارة انتهت الرواية. وقبل محاولة اغتياله بأربع سنوات، قال نجيب محفوظ في حوار أجري معه سنة 1990: مرت الحلقات الأولى من دون أن تظهر أية ملاحظات عليها، فالجزء الأول من الرواية لا يثير أية مشكلات، لكن الأزمة بدأت بعد أن نشرت الصفحة الأدبية بجريدة الجمهورية كلمة، يلفت فيها كاتبها النظر إلى أن الرواية المسلسلة التي تنشرها جريدة الأهرام فيها تعريض بالأنبياء، وبعد هذا الخبر المثير، بدأ بعضهم ومن بينهم أدباء للأسف، بإرسال عرائض وشكاوى إلى النيابة العامة وشيوخ الأزهر، بل إلى رئاسة الجمهورية، يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمي إلى المحاكمة، وبدأ هؤلاء يحرضون المؤسسات الرسمية ضدي على أساس أن الرواية تتضمن كفراً صريحاً. لم يكن نجيب محفوظ وهو يتهم أدباء في تلك القضية يتحدث بكلام مرسل فقد قال في الحوار ذاته: عرفت هذه المعلومات عن طريق صديق لي هو الأستاذ مصطفى كامل حبيب، الذي كان يعمل سكرتيراً لشيخ الأزهر، وكان شقيقه يعمل وكيلاً للنيابة، وهو الذي أخبرني بأن أغلب العرائض التي وصلت إلى النيابة العامة أرسلها أدباء. في رأي نجيب محفوظ أن رجال الأزهر لم يحسنوا قراءة الرواية، بل إن بعضهم لم يقرأ في حياته رواية واحدة، لكن بعد انتهاء النشر التقى محفوظ الممثل الشخصي للرئيس عبدالناصر، وقال له المتحدث الشخصي إنه لا يستطيع أن يسمح بنشر الرواية في مصر، لأنه في حالة صدورها ستحدث مشكلة كبيرة مع الأزهر، ومن الممكن أن تنشر الرواية خارج مصر، واقترح الرجل ترتيب لقاء مع عدد من شيوخ الأزهر لمناقشة الرواية مع محفوظ، لكن هذا لم يحدث أبداً. بعد سنوات سوف تنشر الرواية كاملة في مصر بمقدمة للكاتب الإسلامي أحمد كمال أبو المجد، من دون أن يتغير في الأمر شيء، فلا يزال التطرف يدس أنفه فيما لا يفهمه، ويصدر فتاوى الجهل ضد الكاتب الكبير نجيب محفوظ.
مشاركة :