توجه الدولة واضح في عزمها على الشروع في الدخول إلى مرحلة تنموية كبيرة لمرحلة ما بعد النفط، عناصرها الإنسان والأمن والرفاهية. رؤية تتأقلم مع الجديد وتتجاوز الهواجس والشكوك والجمود. مشروع حضاري ينقل البلاد إلى موقع يليق بمقوماتها وإمكاناتها وقدراتها أُعلنت بالأمس رؤية السعودية 2030 بأبرز ملامحها الاقتصادية والاجتماعية ضمن منظومة تحول غير مسبوقة تهدف لإصلاح جذري؛ أي إنتاج وعي ثقافي وتنموي في المنظومة الاجتماعية بما يحقق تطلعات المواطن والمقيم والزائر. القرار بطبيعة الحال يتجاوز مضمونه الاقتصادي ببعده الحضاري في تشكيل مجتمعنا ما سيتمخض عنه إفرازات ثقافية واجتماعية. هذه الرزمة من القرارات ستتضح تفاصيلها وبدء تطبيقها بعد أسابيع بشكل تدريجي لتدشن مرحلة فاصلة في تاريخ بلادنا إن أردنا الحقيقة مختزلة الزمن والمسافة في آن. مشروع التحول الوطني خطوة جريئة وطموحة بل قفزة تجعل بلادنا من ناحية دولة لا تعتمد فقط على دخل النفط ويحولها إلى دولة مدنية حضارية في جانبها الاجتماعي من الناحية الأخرى. هذا هو العنوان الكبير وهي مهمة ليست يسيرة ولكنها ليست مستحيلة. هذا المقام ليس مكاناً للإطراء أو المديح بقدر ما انه وصف واقعي لما يجري إن كنا منصفين. لست معنياً هنا بالحديث عن التفاصيل والإيجابيات لهذه الرؤية فسوف يشبعها المختصون نقاشاً وتحليلاً وتمحيصاً. ما يهمني هو الصورة الشمولية للمشروع في بعده السياسي والاجتماعي والاقتصادي لموقعية المملكة وانعكاساته ومدى تأثيره على استقرارها وفاعليتها كدولة محورية في المنطقة. نعيش مؤشرات وأجواء ومناخات لتحول حقيقي غير مسبوق انتظرناه طويلاً. في ظل التحديات الداخلية والمخاطر الخارجية من الصعب أن تقف متفرجاً فلابد لك من المبادرة إن أردت البقاء. لا يمكن لك أن تعيش بمعزل عن العالم ولا تستطيع أن تنافس بأدوات وأساليب قديمة بالية أكل الدهر عليها وشرب وبيروقراطية عقيمة وممانعة اجتماعية صلدة. حديث ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لبلومبرج كان لافتاً واستثنائياً وشفافاً. وهو ربما من أهم المقابلات التي نشرتها الصحف السعودية خلال العقود الماضية لما تضمنه من جرأة وصراحة وشجاعة في الاعتراف بالخلل وكشف الأخطاء وأيضا الواقعية في التعاطي مع ما يحدث وإيجاد الحلول للأزمات الراهنة والقادمة على حد سواء. حديث الأمير يعتبر مضمونه تفنيداً لما يطرحه البعض بنعت السعودية بالدولة الرجعية أو ذات طبيعة منغلقة. هذه الروح الجديدة وتلك الرؤية الجريئة الشجاعة وتلك الإرادة الجادة لم تأت كلها رضوخاً لأحد بل جاءت انطلاقاً من استشعار القيادة بحجم الأمانة وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقها؛ فهي ترى شيئاً قد لا نراه. تعلم المملكة وهي في حركتها الدائبة، أن أمامها تحديات جسيمة سواء في الداخل أو الخارج، يأتي في مقدمتها أوضاع داخلية تمس نسيجها المجتمعي ومشروعات إقليمية توسعية تستدعي الحذر منها ومواجهتها والتأهب لها ومناخ عالمي جديد يتطلب الانخراط فيه. توجه الدولة واضح في عزمها على الشروع في الدخول إلى مرحلة تنموية كبيرة لمرحلة ما بعد النفط، عناصرها الإنسان والأمن والرفاهية. رؤية تتأقلم مع الجديد وتتجاوز الهواجس والشكوك والجمود. مشروع حضاري ينقل البلاد إلى موقع يليق بمقوماتها وإمكاناتها وقدراتها. بعبارة أخرى هو تجدد حيوي يرسخ بقاء الدولة وينشط الدماء في شرايينها، كون التاريخ لا يرحم وما لم تتفاعل مع معطياته فانه سيلفظك في النهاية. في كل مجتمع هناك فئة فاعلة ومنفتحة قادرة على الحركة والاشتغال، وفئة أخرى مناهضة للتغيير ما يجعل تقدم المجتمع وتطوره مرهوناً بأيهما الأكثر قدرة على التأثير رغم ان النوستالوجيا أو العيش في الماضي لا تضمن لك البقاء فضلاً عن المنافسة. ولذا صانع القرار يريد من هكذا خطوة دفع البلاد للتناغم مع لغة العصر دون المساس بالثوابت وهي معادلة تحتاج إلى إرادة حازمة بما يقود إلى مواجهة العراقيل وأصحاب المصالح والمثبطين والمنتفعين. ما لم ينصهر الوعي داخل عقلية المجتمع، فإن التخلف الفكري سيبقى مهيمناً بأدواته ووسائله تحت منظومة من التصورات والمفاهيم والعادات التي تسيطر على المجتمع وتقاوم نهضته وتنميته هذه الرؤية لم تأت عبثاً فقد سبقتها هبوب رياح نقدية غير مسبوقة ومراجعة مفاهيم وقرارات إدارية وممارسات اجتماعية أفرزت نفسها ضمن مواجهات علنية بين بعض مكونات المجتمع في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وذلك بالتطرق لمسائل مسكوت عنها لم يكن من المتصور طرحها أو الاقتراب منها قبل عقدين من الزمن. لمسنا ذلك رغم كل الإفرازات السلبية من مماحكات وصخب ولغة ومفردات واتهامات وتعصب وتمييز وتجاوزات وأخطاء وهي متصورة وطبيعية نظراً للتجربة الوليدة التي يعيشها مجتمعنا ولكنها إن أردنا الحقيقة مظهر حضاري ومناخ صحي يقودان إلى تلاشي هذا المناخ الملوث. هذا مسلك ضروري لا بد من عبوره والتجاوز من خلاله للنضوج إن أردنا الوصول إلى شاطئ الأمان. وبما ان المجتمع السعودي ليس مجتمعاً ملائكياً كان عليه أن يواجه ذاته بذاته لأنه ليس من الطبيعي أن تسير الحياة بوتيرتها السابقة وظروفها المعتادة ولا يمكن لها ذلك. كان أكثر المتفائلين يرون بأن الإقدام على طرح رؤية بهذه الشمولية قد يستغرق بضع سنوات وربما يصل إلى عقد أو عقدين من الزمن ولكنها جاءت لتؤكد أن الدولة تتقدم دائماً على المجتمع في تفاعلها الإصلاحي وان التحديث المتوازن هو نهج الدولة، وان الدين الإسلامي لا يعارض التحديث ما أعطى القرار زخماً استثنائياً. يتضح هنا دور القرار السياسي الذي كان ولازال يتقدم المطالب الاجتماعية بمراحل ويدفع باتجاه التطوير ضمن منظومة استشعارية للمجتمع تجس نبضه ومدى قدرته على الاستيعاب والاستجابة، فالقيادة السياسية ترى شيئاً قد لا نراه، ولعل هذا ما يفسر دراية السلطة السياسية بما يحدث حولها، وان تكون ناقدة لذاتها، متفاعلة مع ما حولها، ومتوازنة ما بين مصالحها ومطالب شعبها. من المهم تجاوز مرحلة الحساسية المفرطة من الاقتراب من مناقشة همومنا وملفاتنا الداخلية أو ما أُسميها المجاملة الاجتماعية ولا أقول النفاق الاجتماعي ومقولة إن كل شيء على ما يرام ولا حاجة لنا بنشر غسيلنا..الخ. المكاشفة ظاهرة إيجابية وخطوة على الطريق الصحيح، وبالتالي نحن نعيش الآن مرحلة تسمية الأشياء بمسمياتها قبل الوصول إلى المرحلة التالية وهي النضوج المجتمعي إن جاز التعبير. هذه الوثبة الاجتماعية والاقتصادية التي يقودها الأمير محمد بن سلمان تظل متصورة وحتمية في سياق التحولات الاقتصادية والثقافية والإنسانية المهولة التي يعيشها العالم. لا تستطيع قياس مستوى تقدم شعب من الشعوب إلا بمقدار فاعلية حركة الوعي والثقافة في تركيبته المجتمعية، لأن مكانة المجتمع تتحدد هنا من قدرة فئاته في فهم قوانين الحياة ومعرفة تراكم تجارب التاريخ. وطالما أن منطلق التنمية وغايتها هو الإنسان، فإن تشكل الحداثة والتنمية من جهود الأفراد الذين يعيشون في داخل المجتمع، لا من خارجه. إن اتخاذ قرارات مصيرية بهذا الحجم حاجة ملحة وضرورة شجاعة تقتضيها متطلبات العصر فهي نقلة بحداثة ثقافية وتنمية اقتصادية لا بد من تطبيقها من أجل المرور إلى موقع أفضل ضمن السياق الإنساني والاجتماعي. صفوة القول: رؤية المملكة 2030 الغرض منها إعادة صياغة مفهوم الدولة الراهن بعقلية مؤسسية لدولة مدنية مستنيرة بدينها تسير نحو آفاق أرحب لحياة كريمة ومستقرة لشعبها. zualharthi@gmail.com
مشاركة :