الوادي الكبير.. حديث من الذاكرة المنسية (2)

  • 7/28/2024
  • 18:05
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

    علي بن سالم كفيتان نعم.. إنها التربة التي يستخدمها إخواننا أتباع المذهب الجعفري، كانت مرصوصة في أدراج وزوايا الجامع مع المسابح، فعلمت من يومها أنَّ الدين لله، وكل له عقيدته التي يتبعها لمرضاة ربه في عُمان دون إكراه، وعلينا ألا نشغل أنفسنا كثيراً بهذا الاختلاف؛ فهو سمة هذا البلد الذي حكم شعوبًا من أقاصي إفريقيا إلى تخُوم فارس، وبسط نفوذه لعقود من الزمن على أناس يتبعون العديد من الملل والنحل؛ فمنهم المسلم ومنهم غير المسلم، لكنهم جميعًا باتوا رعايا لهذه الإمبراطورية العظيمة التي لم تلتفت للاختلاف الديني أو المذهبي، واقتحمت الجغرافيا غير مُعتَرِفة بالمكانية (المناطقية)، شأنها في ذلك شأن الإمبراطوريات التي فرضت نفسها على العالم، ودخلت التاريخ من أوسع أبوابه؛ فرغم انكفاء الجغرافيا وعودتنا لعُمان التاريخية إلا أن الأمم والشعوب التي انصهرت معنا لقرون من مختلف الأعراق، أصبحت اليوم جزءًا أصيلاً من نسيجنا الوطني، وقد يستغرب البعض من النهج السياسي العُماني المتفرد في إدارة العلاقات الدولية، واختيارها للغة الحوار ومبدأ السلام، ونهجها القائم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، متناسين أننا أمة ما زالت ذاكرتها الإمبراطورية حاضرة. ما زلت على اتصال ببعض زملائي منذ ذلك الزمن الجميل، وما زلنا نذكر الكلمات التي نتعلمها من بعض؛ فمذكرتي التي أكتب فيها الكلمات السواحلية من زميلي مسعود الحارثي لا تزال في مكتبتي، وهو بدوره يحفظ كل يوم كلمة من لسان ريف ظفار، ولم تمضِ سوى بضعة أشهر حتى أصبحت أحادثه في العموميات بالسواحلية، وهو يجيد كمًّا لا بأس به من الريفية الظفارية، كانت أروقة جامعة السلطان قابوس معاهد مفتوحة لتعلم الثراء الثقافي والمعرفي، وما زلت أذكر دروسَ الشيخ الشعيلي إمام وخطيب الجامعة بعد العصر، والتي غالباً ما يتناول فيها قضيا مهمة، صحيح لم تكن جميعنا متدينين لكننا كنا محافظين على الصلاة والمداومة عليها، فتجد من يأتي للجامع على ظهر دراجة لابساً قميصه وبنطاله وعليه الروب الأبيض، فتعرف أنهم من كليات الطب أو الهندسة أو الزراعة يهرعون لأداء الصلاة والعودة مسرعين، فلا يوجد وقت حتى للحديث الجانبي، الممرات المؤدية للجامع مكتظة في أوقات الفروض، خاصةً الظهر والعصر، القادمون من جبال عُمان وباديتها كعادتهم مسرعو الخطى جادون، وهي سمة عامة فيهم، بينما من عاش في الحواضر والمناطق الزراعية والساحلية تجدهم أكثر هدوءًا ويميلون للحوار والتعارف، امتزج الجميع فهدَّأ المسرعون من حركتهم وجديتهم المفرطة وارتقَى المتأنون ليصبحوا أكثر حيوية ونشاطاً بعد عامين من الدراسة، لا تكاد تلحظ فروقًا تُذكر، وقلَّت التجمعات المناطقية في الكافتيريا لصالح التجمعات المختلطة، وفي مرحلة لاحقة كل حسب الكلية، ومن ثم التخصص. عُدت إلى الوادي الكبير في رحلاتي الأسبوعية وقضيتُ فيها ليالي وأيامًا قادتني للتجول في المنطقة الصناعية ووكالات السيارات، كُنا ندخل إلى المعارض ونفتح أبوابَ السيارات الفارهة، ونتجول من معرض لآخر، رغم أن بعضنا ليس في جيبه ريال واحد، لكننا كنَّا نقول عندما نتخرج ونعمل سنأتي مجددا إلى هنا، ونأخذ هذه السيارة أو تلك، فقد كانت الوظائف في انتظارنا؛ حيث تتخاطف الوزارات والمصالح الحكومية الخريجين وهم على مقاعد الدراسة في آخر فصل، عبر تقديم عروضها وزياراتها للجامعة والتعريف بخدماتها واحتياجاتها من الخريجين، فما عليك سوى تعبئة استمارة تضع فيها أفضل ثلاث وزارت ترغب العمل بها مُرتَّبة حسب الأولوية في وزارة الخدمة المدنية، وتنتظر الاتصال، هذا ما كنَّا نسمعه ونراه مع زملائنا من الدفعات التي قبلنا؛ لذلك بات الزواج واقتناء سيارة وبناء بيت أمراً حتمياً في تلك الحقبة. كم يُؤلمنا ما حدث في الوادي الكبير، وكم يُؤلمنا الحديث عن عمل إرهابي في عُمان، وبالطبع نحن لسنا مجتمعاً ملائكيًّا في هذا المحيط المتدافع بالحروب والفتن، ولا يمكن أن ننسب أيَّ عمل دموي كهذا إلى الإسلام أو إلى طائفة أو مذهب في بلادنا؛ فداعش صناعة غربية لتشويه صورة الإسلام والمُسلمين، ولكي تبعد المؤمنين عن فريضة الجهاد الحق في الإسلام، فأكثر ما يخيف أعداءنا اليوم هو الدعوة للجهاد، فلنا أن نتخيَّل لو أفتى مجمع شرعي كبير في العالم الإسلامي بأنَّ الجهاد أصبح فرضَ عين في فلسطين، كم سيكون حجم رعب الصهاينة الذين يعيثون في الأرض فساداً؛ لهذا اخترعوا ما أسمُوه "داعش" وصار ذراعهم لضرب كل مُتعاطف مع قضايا الإسلام والمسلمين، وهنا لو استحضرنا تاريخ داعش الدموي فلن نجد لهم رصاصة واحدة إلى أعداء الإسلام، بل جُل إجرامهم وقتلهم هو في الشعوب العربية والإسلامية الآمنة.. حفظ الله بلادي من كل سوء ومكروه.

مشاركة :