بدأ العدّ التنازلي للانتخابات النيابية في الأردن، إذ يفصلنا أقلّ من أسبوعين عن يوم الاقتراع، فيما أسئلة عديدة لا تزال تهيمن على نقاشات "النخب السياسية"، أبرزها سؤالان رئيسان: يتعلق الأول بنسبة التصويت المتوقعة، إذ هنالك توقعات متباينة ما بين 35% و26%، والثاني بعدد الأحزاب التي ستتجاوز العتبة على صعيد القائمة الحزبية الوطنية (تميل أغلب التوقّعات إلى أن تكون بين سبعة وعشرة أحزاب). وعلى وجاهة السؤالين، من المفترض أن يتم تجاوزها إلى الأسئلة الأكثر أهمية، ولعلّ أهمها عن قدرة الأحزاب القوية أو التي تثبت وجودها في الانتخابات على تقديم أداء مقنع للجمهور في مجلس النواب القادم أولاً، وردّ الاعتبار لمجلس النواب بصفته ممثل "الشارع" في النظام السياسي، وهو أمرٌ يرتبط أيضاً بحالة الكتل النيابية وقدرة الأحزاب على تحقيق أمرين رئيسين: أن تكون كتلها متماسكة في المجلس ذات أهداف وبرامج واضحة، وأن تعكس ما قدمته من وعود وبرامج ومقترحات للسياسات في برامجها الانتخابية. تتمحور الخبرة الشعبية مع الأحزاب سابقاً حول نوعين: الأول، الأحزاب العقائدية - الأيديولوجية التي تتبنى قضايا كلية ومواقف سياسية واضحة، من دون أن تهتم كثيراً بتقديم برامج ومقترحات واقعية وعملية. والثانية أحزاب وسطية هشّة، مشخصنة (أي تهيمن عليها شخصيات سياسية)، تتسم بالهلامية في تكوينها وأدائها البرلماني، وهي صورة لن تتغيّر إلّا إذا تمكّنت الأحزاب الجديدة من التجذّر وتقديم خطابات مستقلة عن الحكومات، وبرامج وسياسات واقعية وخطابات نقدية، تقترب من هموم المواطنين وقضاياهم، وهذا هو المحكّ الحقيقي لمدى نجاح التجربة الحزبية أو فشلها، وتمكّن الأحزاب من أن تكون عربة التغيير والإصلاح. راهن كثيرون، في الشهور الماضية، على تراجع "مطبخ" القرار عن مشروع التحديث السياسي، وتعرّضت الأحزاب لهجمة إعلامية، في جزءٍ منها ساخر، ونجد جزءاً كبيراً منها في الموقف من الحملات الانتخابية الراهنة. وقد تكون في جزء كبير منها صحيحاً، لكنها تتجاوز عن مسألة مهمّة، أنّ الأردن ليس من ضمن الدول الديمقراطية الناجزة، بل هي في مرحلة هجينة من التحوّل الديمقراطي، وهي عملية تأخذ مدى زمنياً، وتمرّ بمراحل مدّ وجزر، وقد تنتكس، ما يجعل من عامل النجاح والفشل مسألة ليست محسومة سلفاً، بل ترتبط بصيرورة العملية ومساراتها. وكما يقول دنكوارت روستو، لا توجد تجربة تحوّل ديمقراطية لأي دولة منسوخة بشكل كامل من تجربة أخرى. ويطلب نجاح التجربة الحالية وقتاً وجهوداً ومراحل أخرى. لذلك نقول إنّ الاختبار الحقيقي للأحزاب السياسية، بألوانها المتعدّدة بعد الانتخابات وليس قبلها، وأنّ اداءها السياسي، بخاصة النيابي، معيار مهم في ذلك. في السياق نفسه، أخذ مفهوم "الهندسة السياسية" سمعة سيئة في العالم الثالث، لأنّه ارتبط بمحاولات تدجين المعارضة والقوى السياسية والتلاعب بنتائج الانتخابات، لكن المصطلح، نظرياً، وفي أدبيات التحوّل الديمقراطي مختلف تماماً عن تلك الخبرة؛ فهو يشير إلى ضرورة القيام بخطوات محسوبة ومدروسة لتطوير العملية الديمقراطية وإنجاح التحوّل، ولعلّ إحدى الخطوات المهمة في الهندسة السياسية في المرحلة المقبلة تتمثّل بضرورة إعادة النظر في النظام الداخلي لمجلس النواب الأردني لتطوير العمل الحزبي ضمن اللجان النيابية، وفي توزيع المواقع الإدارية وتعزيز تماسك الكتل النيابية، أسوة بما تمّ في قوانين الأحزاب والانتخاب التي استدخلت الأحزاب في صلب اللعبة، وقانون الجامعات والمناهج وغيرها من سياسات وتشريعات وإجراءات ساهمت في الفترة الماضية بتحريك المياه الراكدة وحقن التجربة الحزبية بديناميكيات فاعلة. اتسمت التجربة الديمقراطية في الأردن خلال العقود الماضية بالمدّ (القصير) والجزْر (الطويل). وهذه ليست تجربة التحديث الأولى خلال العقود الماضية، لكنها الأولى التي تتحوّل إلى تشريعات وقوانين ومناهج وسياسات. والزخم الذي اكتسبته الأحزاب السياسية خلال الشهور القليلة الماضية ليس ضعيفاً، بالرغم من الظل الثقيل للحرب على غزّة على المشهد الداخلي الأردني، وستكون المرحلة التالية للانتخابات مهمّة في مجال هيكلة المشهد الحزبي وتأطير دور الأحزاب في العملية السياسية، خطوة من خطوات التطوّر السياسي في البلاد. العربي الجديد
مشاركة :