بتدمير برجي التجارة العالمية في منهاتن بنيويورك في (11 سبتمبر 2001م) بعمل إرهابي مفاجئ وغير مسبوق، انتهت أسطورة (الأمن القومي الأمريكي)، الذي تفصله عن عالم الأزمات والصراعات والحروب مياه المحيط الأطلسي التي حرصت الولايات المتحدة الأمريكية أن تبقيه خط دفاعها الأول عن أمنها واستقرارها، وليست أحداث وتطورات حرب الخنازير في (أبريل 1960م) عندما أبحرت أساطيل وبوارج الدب الأحمر الروسي من قواعدها في البحر الأسود للدفاع عن الانقلاب الشيوعي في كوبا إلا دليلاً على أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تسمح لأي قوة دولية الاقتراب من مياهها الإقليمية، ولولا الجهود الدبلوماسية المكثفة التي أدت للتوصل إلى تسوية في اللحظات الأخيرة بانسحاب القوات البحرية الروسية إلى قواعدها لقامت حرب عالمية ثالثة بكل تأكيد. وإثر هجمات (سبتمبر 2001م) الإرهابية تم تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، لبحث وجمع أكبر قدر من المعلومات حول تخطيط وتمويل وتنفيذ تلك الهجمات، وانتهت اللجنة إلى تقرير فاقت صفحاته (800) صفحة، ظهر الجدال بشأنه مؤخرا مع مناقشة الكونجرس الأمريكي لمشروع قانون معنون بـ (Justice Against Sponsors of Terrorism Act) أي (العدالة ضد رعاة الإرهاب) ويهدف إلى توفير العدالة لضحايا الأعمال الإرهابية التي ترتكب على الأراضي الأمريكية - ومنها هجمات (سبتمبر 2001م) - وتوفير الغطاء القانوني لأهاليهم لإقامة دعاوى قضائية أمام المحاكم الأمريكية ضد الأشخاص أو البلدان المشتبه في تمويلهم لتلك العمليات الإرهابية. المثير في ذلك الموضوع هو حجب الفصل الأخير من التقرير عن الجمهور من قبل إدارة الرئيس السابق جورج بوش لأسباب تتعلق بالأمن القومي، ليستمر التقرير محاط بجدار من السرية حتى عهد الرئيس الحالي باراك أوباما، ويتكون ذلك الفصل من (28 صفحة) وأصبح يعرف في الأوساط الإعلامية بـ(تقرير الـ 28 صفحة)، ويتناول - بزعم الإدارة الأمريكية - دور المملكة العربية السعودية في تلك الهجمات، لذلك يطالب أقارب ضحايا هجمات (سبتمبر 2001م) بحقهم في الاطلاع على ذلك الجزء من التقرير، لإتاحة الفرصة لهم - بحسب مشروع القانون الذي يبحث في أروقة الكونجرس - لممارسة حقهم القانوني في رفع دعاوى على المملكة العربية السعودية لمطالبتها بتعويضات مالية عمن فقدوهم في أحداث التفجيرات استنادا لما أثبته (تقرير الـ 28 صفحة)! وبقراءة الواقع السياسي الأمريكي نجد أن إثارة هذا الموضوع في هذا الوقت تحديدًا، واختلاق ذلك الجدل، جاء بشكل مخطط ومتعمد لأسباب عدة يتلخص أهمها في: - التغطية على فشل الولايات المتحدة الأمريكية في إدارة أزمات منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي خلال فترة رئاسة باراك أوباما، خصوصًا في ظل ما وصلت إليه العلاقات الأمريكية العربية من توتر يحدث لأول مرة في التاريخ خصوصا مع المملكة العربية السعودية. - الضغط على الرياض بعدما عصفت سياسة الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود بالأهداف الأمريكية في اليمن والبحرين، ورفضها التفاوض مع إيران كقوة إقليمية في المنطقة وهي المعروفة بأطماعها وتهديداتها المتكررة لأمن المنطقة العربية ككل والخليجية على وجه الخصوص. - تحقيق مكاسب مالية ضخمة لشركات التأمين الأمريكية ومكاتب المحاماة العملاقة التي تولت مهمة الدفاع عن ضحايا هجمات (سبتمبر 2001م) لتعويض ما دفعته من أموال طائلة للضغط على الكونجرس للموافقة على إصدار مشروع القانون المذكور.لقد اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية من هجمات (سبتمبر 2001م) ذريعة لإحداث التغيير اللازم لإحكام السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، فقد قامت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس في (أبريل 2005م) بإعداد خطة بمسمى (الثورة الخلاقة) لتشكيل (الشرق الأوسط الجديد) كردة فعل مباشرة على ذلك الهجوم الإرهابي، وتهدف الخطة إلى استبدال الأنظمة العربية القائمة باعتبارها سببًا مباشرًا لأعمال العنف والإرهاب والتطرف الذي يهدد الأمن القومي الأمريكي والعالم بأنظمة تعددية ديمقراطية، واستغلال شعارات حقوق الإنسان وحرية التعبير كمدخل مشرع الأبواب للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية وإحداث التغيير المطلوب بتحريك الشارع العربي لينفض غبار أنظمته القائمة، فانطلقت الثورات في الوطن العربي في أزمان متقاربة جدًا بشكل متعمد ليصبح زخمها مجتمعة أكثر قوة وتأثيرًا ولتشعل نارًا لم تزل مستمرة في (ليبيا وتونس واليمن ومصر والعراق وسوريا)، ولم تحاول الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا - وهي الدول المتحكمة في قرارات الأمم المتحدة وحملت راية التغيير في الشرق الأوسط - البحث عن الأسباب الحقيقية لهذا العنف والإرهاب المتزايد، ولم تعمل على إيجاد حلول مباشرة وواقعية للعديد من قضايا الشرق الأوسط التي من أهمها القضية الفلسطينية التي تراوح مكانها في أروقة الأمم المتحدة منذ أكثر من ستين عاما، وكنتيجة طبيعية جدًا لذلك برزت التنظيمات الإرهابية وازدادت قوة وسيطرة وتحكم في مسارات العمليات الإرهابية بتأجيج الطائفية في الوطن العربي (كتنظيم داعش وجبهة النصرة وحزب الله الإرهابي). وما ساعد الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية على تحقيق أهدافها في تحريك الشارع العربي ضد أنظمته القائمة هو ما دفعه المال العربي الذي أدار دفة القرار السياسي وتمويل الأحداث والمتغيرات في تلك الفترة بعد أن تهيأ له الغطاء العربي بالجامعة العربية والتعاون والتنسيق مع القوى الغربية لتكتمل صورة المشهد العام لتنفيذ مخطط (الثورة الخلاقة) الرهيب في عملية دقيقة ومنظمة. وكانت (مملكة البحرين) من الدول المستهدفة ضمن ذلك المخطط، لتكون منطلق إسقاط منظومة (مجلس التعاون الخليجي) الذي يعد الكيان الاتحادي الوحيد الناجح في التاريخ العربي، حيث كان المدخل إلى ذلك تأجيج الشارع البحريني للمطالبة بالتعددية السياسية وحرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات، إلا أن ذلك لم يتحقق رغم الضغوط الهائلة التي تعرضت لها المملكة من أطراف دولية وإقليمية معروفة كالولايات المتحدة وإيران التي سخرت أموالها وإعلامها وقادت عمليات تهريب الأسلحة وتمويل وتدريب العناصر الإرهابية في معسكرات على أراضيها وعلى الأراضي العراقية واللبنانية، وهيأت لهم كافة الفرص لدراسة وتعلم صناعة القنابل والمتفجرات وإدارة المظاهرات والاحتجاجات وتأليب الشارع باستغلال الأجواء والظروف الملتهبة في محيطه العربي القريب والبعيد، وتكسرت أمواج الضغط التي واجهتها مملكة البحرين بحكمة ومرونة ودبلوماسية واتصالات وأدلة دامغة، وقمت - بحكم عملي السابق كوكيل للشؤون الإقليمية ومجلس التعاون بوزارة الخارجية وبتكليف من معالي وزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة الذي قاد هذه الحملة الدبلوماسية والسياسية الصعبة - بتوضيح الحقيقة الغائبة والدفاع عن سياسة البحرين وقيادتها في كل المؤتمرات العربية والدولية التي حضرتها آنذاك ممثلا عن المملكة. ويمكن توضيح أسباب فشل الضغوط السياسية والإعلامية وحملات منظمات حقوق الإنسان الموجهة ضد مملكة البحرين في الآتي: 1. إرادة شعب البحرين التي عبر عنها بعفوية في تجمع الفاتح بتاريخ (21 فبراير 2011م)، والتفافه حول قيادته الوطنية الشرعية، وتأكيده للعالم أن المعارضة الطائفية لا يمكن أن تحقق مطالبها وأهدافها، نظرًا لوجود معارضة وطنية مقابلة حاولت المعارضة الطائفية وأبواق الإعلام الإيراني والضغوط الغربية من قبل الدول والمنظمات الحقوقية اختطاف حقوقها ومطالبها، وهي التي وقفت مع التغيير في إطار المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المفدى الذي أقره الشعب بنسبة (98.4%) بالتصويت على ميثاق العمل الوطني في (14 فبراير 2001م). 2. الدعم السعودي والإماراتي العسكري والأمني اللا محدود لمملكة البحرين، انطلاقًا من وحدة المصير المشترك والمسؤولية الجماعية للحفاظ على أمن واستقرار دول المجلس وسيادتها، بتقديم المساعدات الضرورية والاستجابة لطلب البحرين في (مارس 2011م) بدخول قوات درع الجزيرة لوقف التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للمملكة وحماية مؤسساتها ومنشآتها الحيوية، والذي اعتبره الاتحاد الأوروبي تدخلاً سعوديًا في البحرين. 3. المارشال الخليجي السخي لمشاريع البنية التحتية الذي قدمته دول مجلس التعاون لكل من البحرين وعمان ودوره المهم في الحفاظ على استقرارهما الاقتصادي والاجتماعي. 4. الحملات السياسية والدبلوماسية الضخمة التي قامت بها وزارة خارجية مملكة البحرين بالتنسيق مع عدد من مؤسسات المجتمع المدني والشخصيات الحقوقية والإعلامية البحرينية المعروفة لتوضيح موقف البحرين من الأزمة وجهودها لتعزيز مبادئ حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والتعددية في ضوء المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المفدى. إن فشل زيارة الرئيس أوباما الأخيرة للرياض في إزالة التوتر القائم بين الجانبين (السعودي والأمريكي) بسبب الاتفاق النووي الإيراني الذي يعطي دولة فاشلة مثل إيران دورًا إقليميًا في المنطقة مما يرفع من درجات التهديدات التي يتعرض لها أمن واستقرار منطقة الخليج العربي، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه لم يعد أمام دول مجلس التعاون من خيار سوى التأكيد على مواقفها الجماعية الموحدة والثابتة لمواجهة التهديدات والصراعات المحيطة بها للحد من تأثيراتها على أمن المنطقة وشعوبها، بإعادة مشروع (الاتحاد الخليجي) على طاولة قمة قادة دول مجلس التعاون القادمة في البحرين في (ديسمبر 2016م) لضرورته الملحة التي يفرضها واقع الأحداث والتطورات والدور المتنامي الذي برز لدول المجلس بعد التحالف العربي في (عاصفة الحزم والأمل) والتحالف الإسلامي في (مناورات رعد الشمال) اللذين يعدان أهم تحالفين عسكريين في التاريخ الحديث. المحلل السياسي للشؤون الإقليمية ومجلس التعاون
مشاركة :