عندما تفشل الصحف فى الحصول على أخبار تخترعها. لم يقترب صحفى واحد من «أحمد زكى» فى أيامه الأخيرة رغم سيل الأخبار اليومية التى تنشر عنه. لكن لم تكن فى معظمها صحيحة إلا ما سربه الأطباء منتهكين قوانين السرية والخصوصية أو ما نقل عما أنشر دون الاعتراف بالمصدر. كانت التعليمات صارمة تفرض حصارا على غرفته فى المستشفى ولا يدخلها سوى «سمير عبد المنعم» و«محمد عبد السلام» وبشرط أن يضع كل منهما كمامة على الأنف وقفاز من المطاط فى اليدين. وحاولت صحفية فى جريدة «الحوادث» أن تتخفى فى ثياب ممرضة لتدخل حجرته وتصوره ولكنها فشلت وعرضت صحفية أخرى فى مجلة «صباح الخير» رشوة على الممرض المناوب الدائم فى حجرته ولكنها طردت من المستشفى. أما ما نشرت عنه فكان بموافقة منه وتشهد على ذلك رغدة. وفى كثير من الأحيان كنت لا استجيب لما يريد ومنعت نشر أكثر من انفراد عنه رغم إلحاحه فى النشر. كانت حالته قد وصلت إلى تدهور غير مسبوق. أصبح نحيفا بعد أن فقد الكثير من وزنه. وسدت شهيته فى وجه الطعام. وأجبرت الأطباء على تغذيته بالمحاليل عبر خراطيم تخترق الأوردة. وضغط الورم الذى أصاب الرقبة على الحلق جعل الطعام يرتد من المعدة إلى الحلق. وضاق التنفس مما فرض عليه استخدام أنبوبة أكسجين غالبية الوقت. وعانت الرؤية من غمامة على العين. وبدأ النطق فى العجز عن التعبير عما يريد. ولم يعد قادرا على الوقوف إلا لدقائق معدودة. هكذا كانت حالته وصورته يوم طلب هو وبنفسه من «عماد الدين أديب» أن يصور معه حوارًا تليفزيونيا عفويا يتحدث فيه عما يخطر على باله. ولكن «عماد الدين أديب» رفض أن يرى جمهوره «أحمد زكى» آخر غير الذين يعرفونه. وكان ذلك هو الطلب الوحيد الذى رفضه له «عماد الدين أديب». لكن ذلك لم يمنع صائدى الوهم فى المياه العكرة من اتهام «عماد الدين أديب» بأنه استغل مرضه فى الدعاية لفيلم «حليم». والحقيقة أن عقد فيلم «حليم» كان نوعا من الدعم المالى الراقى له بعد أن وجد نفسه لا يجد فى حساباته البنكية ما يستره فى أيامه الأخيرة حتى لو سددت الدولة تكاليف العلاج كما أنه لم يكن ليملك شيئا ما مناسبا يتركه إلى ابنه الذى لم يكمل تعليمه ليعيش عليه بعد وفاته. فى الوقت نفسه بدأ بعض العاملين فى المستشفى يأتون بالمرضى العرب أو أسرهم أو زوارهم ليشاهدوه وهو على مقعده المتحرك بالقرب من المسجد ونالوا كثيرًا من المال. وبعد أن كانت إدارة المستشفى سعيدة بالدعاية التى حققها وجوده فيها خاصة فى الفترات الأولى للعلاج فإنها بعد تدهور حالته سعت لإبعاده خارجها بقدر ما تستطيع بحجة رفع حالته المعنوية وشجعت عودته إلى الفندق. لكن السؤال الذى طرحته على الأطباء: ــ لم سمحتم له بتمثيل فيلم حليم وهو فى حالته الصحية الحرجة؟ أجاب الدكتور «ياسر عبد القادر» على السؤال فى رسالة عتاب نشرتها «صوت الأمة» تحدث فيها عن علاقة الصداقة الإنسانية التى تربط بيننا والتى زادت بعد أن تولى علاج الفنان «أحمد زكى» ورعايته التى وصفها بأنها «فائقة». بدأ العتاب الذى «لن يفسد ما بيننا» بسبب ما أثير فى «صوت الأمة» بعد الوفاة وتعرض الصحيفة «إلى ما اسماه فنية العلاج» «التى مست شخصى وفريق الأطباء المعاون» وتعرضت إلى مدى «خطورة قيام الفنان «أحمد زكى» بالتمثيل وتأثيره على نمو المرض ونشاط المريض». وحدد الدكتور «ياسر عبد القادر» رده فى نقاط محددة ومتتالية: ــ إن العلاج جرى وفق بروتوكول وقواعد اتفق عليها بين فريق الأطباء المصرى والخبير الفرنسى «شيفاليه» وجرى تنفيذ ذلك بدقة متناهية والتزمنا به منذ بداية العلاج وحتى نفاذ إرادة الله سبحانه وتعالى بالعرض أسبوعيا على الخبير الفرنسى وتحت إشراف وعلم الدكتور محمد عوض تاج الدين وزير الصحة والسكان. ــ إن القرار الطبى من جانبنا بالسماح للفنان أحمد زكى بالتمثيل بعد المرض قد اتخذ بعد أن طلب هو نفسه من الخبير الفرنسى السماح له بذلك بل إنه سألنا عن تأثير التمثيل على مرضه وصحته وعلاجه ورغم علمنا كفريق طبى مصرى بعدم وجود مانع أو خطورة من القيام بتمثيل دوره إلا أننا انتظرنا رد الخبير الفرنسى الذى أثنى على القرار وطالبه بالقيام بالتمثيل مؤكدا أن ذلك يرفع من روحه المعنوية ومن ثم يزيد من كفاءة جهازه المناعى وهو أمر حيوى فى حالته الصحية. ــ لا يخفى عنكم وكنتم تتابعون بشغف المصريين المعجبين بالفنان أحمد زكى إننى كطبيب معالج لا أستطيع أن أعين حراسة تمنع المعجبين وهم ملايين من المصريين وعرب وأجانب من تنفيذ تعليماتى بمنع الزيارة عنه والتى كنت أكررها ليل نهار مع إدارة المستشفى. ــ أما بالنسبة لما أثير عن اكتسابى الشهرة نتيجة علاج الفنان أحمد زكى فإننى لا أنكر أننى شرفت بأن أكون الطبيب المعالج لفنان قدير وشخصية جميلة مثل أحمد زكى ولكن يعلم الله أننى قد أديت عملى بكل أمانة وصدق وحب دون أن انتظر مقابلا لذلك. ــ إننى بدأت علاقتى بالفنان أحمد زكى كطبيب معالج لمريض وتطورت تلك العلاقة لما له من كاريزما قوية للغاية تجذب كل من يتعامل معه إلى علاقة صداقة حميمة وراقية وسامية جعلتنى أخرج من طور الطبيب المعالج إلى اعتباره أحد أفراد أسرتى المقربين ورغم علمى بخطورة مرضه إلا أننى كنت أدعو الله أن يمد فى عمر هذا الفنان القدير. ــ بعد كل ما سبق عرضه أرجو من سيادتكم لما أعرفه عنكم من نبل أخلاقكم وتمسككم بالقواعد القانونية والتزامكم الدائم بحرية النشر أرجو نشر الرد كما هو دون ما حذف أو إضافة واعتبر أن فى حالة التزامكم بهذا أن العلاقة بيننا صافية وأن ما فى صدرى قد زال وانتهت كافة المشاكل الشخصية والقانونية بيننا. كتبت هذه الرسالة يوم ١٣ أبريل ٢٠٠٥ ونشرت فى العدد التالى لوصولها. وفيما بعد لمع نجم الدكتور «ياسر عبد القادر» واختير ليكون طبيبا معالجا لمبارك ومتابعا لحالته الصحية بعد أن أصيب بسرطان البنكرياس وتولى الاتفاق معه صهره رجل الأعمال «محمود الجمال». والحقيقة أن حالة «أحمد زكى» تدهورت خلال تصوير فيلم حليم حتى أن منتج الفيلم «عماد الدين أديب» استأجر غرفة فى فندق قريب من المستشفى لواحد من الفريق الطبى المعالج ليظل إلى جواره ليل نهار فى البلاتو لبعد سكنه فى حى مدينة نصر. وخلال تصوير الفيلم أيضا سمعنا خبرًا عن ظهور دواء جديد لعلاج السرطان فراح «عماد الدين أديب» يجرى اتصالات متعددة ليعرف كيفية الحصول عليه. واتصل بالدكتور «ياسر عبد القادر» الذى كان فى باريس ليسأله عن مدى صلاحية الدواء لعلاج حالة أحمد زكى؟ وبقينا جميعا فى انتظار المعجزة. هل يمكن الحصول على هذا الدواء فى الوقت المناسب؟ هل يناسب الحالة بعد أن سيطر السرطان على مساحة كبيرة من الخلايا؟ إن كل شيء فى حياة «أحمد زكى» لم يكن طبيعيا. حياته. مرضه. شخصيته. نجاحه. شهرته. فلم لا تكون المعجزة من نفس العينة وتتحقق فى آخر لحظة؟ جاء خبر الدواء الجديد فى رسالة متفائلة تلقتها «يسرا» على تليفونها المحمول. ولكن سرعان ما تبخرت المعجزة فلم يسمع طاقم الأطباء المصرى عن هذا الدواء من قبل ولم نعرف نحن كيف نحصل عليه. على أن الخبر جاء فى وقت مناسب تماما ليضفى نوعا من الأمل ــ ولو لساعات قليلة ــ وسط كل هذا الظلام. فى صباح ذلك اليوم وضعوا «أحمد زكى» على سرير متحرك ونزلوا به إلى غرفة الرنين المغناطيسى ليجرى أشعة مقطعية على الرأس ولكن النتيجة لم تكن لصالحه. على أن ذلك لم يمنعه من أن يداعب من حوله بنكات ساخرة لاذعة كما تعود. منها أن مجموعة من الصعايدة الطيبين راحوا يعزون الفنان «عمر الحريرى فى وفاة شقيقه الرئيس اللبنانى رفيق الحريرى». وكشف ساقه اليمنى المتورمة بفعل الجلطة ثم كشف ساقه اليسرى بفعل السرطان وقال: ــ الأولى تشبه ساق امرأة والثانية تشبه ساق رجل ولو وضعناهما فوق بعضهما البعض لوجدنا أنفسنا أمام علاقة جنسية. وداعب ابن خاله «سمير عبد المنعم» بلحيته الكثيفة ونظارته المستديرة قائلا: ــ أنت تذكرنى بأيمن الظواهرى. كانت السخرية سلاحه الوحيد للسمو على الأزمات. ولكن السخرية لم تمنع رغبته فى أن يواجه قدره بالدفاع عن حياته إلى حد أن طلب من «رغدة» أن تكون مسئولة عنه وتحميه. ويوم الجمعة السابق على رحيله وضعت تليفونى على أذنه ليكلم الدكتور «أسامة الباز» ليوصيه برعايته. يومها قال الدكتور «أسامة الباز»: ــ أسمع يا أحمد أنا نجوت من الموت مرتين المرة الأولى لما أجريت جراحة القلب المفتوح فى أمريكا دون أن يعرف أحد والمرة الثانية يوم عولجت من السرطان بعيدا عن المستشفيات حيث كنت أتناول جرعة الكيماوى فى غرفة فندق دون أن يعرف أحد سوى قليل من الأصدقاء فلا تتوتر كثيرا حتى تنجو من ذلك المرض اللعين. ــ إنها نفس نصيحة الأستاذ هيكل يا دكتور لكنى لم أستطع تنفيذها. ــ لو شئت السفر إلى الخارج هناك طائرة جاهزة لتسافر بها إلى الدولة التى تحب أن تعالج فيها ولا تشيل هما. ــ إن فى أعماقى شعورًا بأن الموت أصبح قريبا منى ولن أغامر بالابتعاد عن مصر فى هذا الوقت حتى لا أعود إليها فى صندوق. جرت هذه المكالمة فى الساعة الثالثة عصرا. بعد ١٢ ساعة بالضبط وقع حادث درامى يصعب تجاوزه. جاءت أم «أحمد زكى» لزيارته. وخشينا أن يرفض استقبالها وليس أمامه سوى القليل من الوقت ليلقى ربه ولعلها تشفع له. واختيرت لتنفيذ هذه المهمة الصعبة. دخلت حجرة نومه أقدم خطوة وأرجع أخرى حتى استجمعت شجاعتى. كان الظلام سائدا ولكنه عرفنى من صوتى بعد أن فقد البصر وقبل أن يضىء النور قلت له: ــ انتظر قليلا. ــ هل لديك جديد فى موضوع الدواء. ــ لا ولكن هناك موضوعًا مهمًا أريد أن أكلمك فيه. ــ هل هذا وقته؟ ــ هذا بالتحديد وقته. ــ خير إن شاء الله. ــ شوف يا أحمد كلنا سنموت. أنا سوف أموت. وأنت سوف تموت. وكلنا ارتكبنا أخطاء فى حياتنا. ولكن يبدو أنك ستسبقنا وهنا لا بد أن تعرف أننا نحتاج لمن يشفع لنا ويكون مقبولا عند الله ويستجب لشفاعته سبحانه وتعالى. ــ مش فاهم. ــ ليس هناك أكثر من الأم لتشفع لنا. وقام من مكانه وراح يلف حول نفسه فى الغرفة بحذر حتى لا يصطدم بشيء لا يراه وارتفع صوته بهمهمات غير واضحة وبدا وكأنه يتشاجر مع نفسه ثم استدار ناحيتى منكرا صداقته وربما كانت هناك جمل أخرى لا أتذكرها لأننى كنت أركز على إقناعه بدخول أمه عليه. ــ يا أحمد أنت حر فى ذنوبك لكن لا تحرمنى من الثواب الذى سأحصل عليه. وقبل أن ينطق ضغطت على تليفون «سمير عبد المنعم» فى إشارة منى بدخول الأم. ودخلت الأم ليرتمى «أحمد زكى» فى حضنها وهو يجهش فى البكاء وكأنه لم يبك منذ تركته طفلا صغيرا وإن كانت تزوره بين الحين والآخر ولكن قبل أن يعيش فى القاهرة. صلت الأم ودعت له وخرجت لتعود إلى الزقازيق على الفور. قالت له: ــ قلبى وربى راضيين عليك. وعندما دخلت عليه أمسك برأسى كى يقبلها لكننى فلت منه فقد كنت مستعدًا أن أفعل أى شىء يسعده وأنا أعرف أننى سأفقده بين لحظة وأخرى. بعد ساعات من مغادرة الأم القاهرة لحقت بها سيارة نصف نقل عليها شحنة كبيرة من كتب الأدعية أمر «أحمد زكى» بطبعها وسبق أن وزع بعضها على المصلين فى مسجد «السيدة نفيسة» التى كان يحبها ويزورها كلما ضاق صدره واسودت الدنيا فى وجهه وكنت صاحب هذه الروشتة الروحانية. فى الوقت نفسه تولى مدير أعماله «محمد وطنى» التبرع بأموال لا يجوز ذكرها إلى جمعيات خيرية متعددة على رأسها جمعية مرضى السرطان فى مستشفى قصر العينى. وذبحت ثلاثة «عجول» ووزعت سرا على الفقراء. وسافر ثلاثة من عمال المستشفى عمرة على حسابه. إن السرطان على قسوته يجد من يصفه بأنه «مرض الجنة» حيث يعطى فرصة للمصاب به أن يقترب من الله ويصفى حسابه مع الدنيا وينتقل إلى العالم الآخر شفافا ونقيا ومتطهرا إلى حد ما. فى اليوم نفسه طلب «أحمد زكى» أن يرى «منى زكى» التى تشاركه فيلم بطولة «حليم» بدور «سعاد حسنى» وسبق أن مثلت معه دور «جيهان السادات» فى فيلم «السادات» ومثلت دور ابنته فى فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة». كانت «منى زكى» خارج الغرفة منذ ساعات طوال ودخلت عليه لعدة دقائق خرجت بعدها وعيناها حمراوان لتغادر المستشفى بصحبة زوجها الفنان «أحمد حلمى» ليجدا على الباب الفنانين «محمد هنيدى» و«كريم عبد العزيز». وجاء «شريف عرفة» ودخل غرفته على الفور ولم نعرف هل كانت زيارة اطمئنان عليه أم زيارة اطمئنان على فيلم «حليم». فى ذلك اللقاء «طلب أحمد زكى» تصوير جنازته لاستخدامها فى الفيلم على أنها جنازة «عبد الحليم حافظ». لكن وصيته الحقيقية كانت من جملة واحدة قالها لكل من كانوا حوله: «حافظوا على أحمد زكى ما تبهدلوش أحمد زكى». كان يقصد ألا يعرضه أحد ــ وهو على فراش المرض ــ إلى ما ينقص منه وما يشوه صورته وما يسىء إليه. وطلب أن تخرج جنازته من مسجد «عمر مكرم» على أن يكون العزاء فى مسجد «الحامدية الشاذلية» المواجه لبيته فى «المهندسين». فى الوقت نفسه طلب من «محمد وطنى» تجهيز المدفن. ولم تمر ساعات حتى وصل «أحمد زكى» إلى نهاية المشوار. فى فجر يوم الأحد ٢٧ مارس عام ٢٠٠٥ غادر الدنيا دون أن نسمح لأحد «ببهدلته». غادرها وليس عليه دينا ماليا أو فنيا لأحد. راهن «رغدة» أنه لن ينجو من السرطان. وكسب للأسف الرهان. وحولت «رغدة» الرهان إلى قصيدة كتبتها فيما بعد قالت فيها: «إنى راحل. «لن ترحل. «ورهان منه ورهان منى. «لكنه سقط منى. «سقط منى أحد النبلاء. «أحمد راحل يا سادة. «أحمد كسب الرهان.
مشاركة :