من الخطورة الاقتصادية بمكان أن تعمل كل جهة بمعزل عمّا تعمله الجهات الأخرى، بفعل الاعتماد المتبادل Interdependence بين مختلف هذه الجهات، وأن إهمال تقييم هذا التبادل، على أسس كميّة ومهنية، وآثاره الاقتصادية، يؤثران سلبا على أداء جميع الجهات، والاقتصاد ككل. وعادة ما تختصّ وزارة، أو هيئة معينة، بمهام الإدارة الاقتصادية الكلية، مثل وزارة الاقتصاد أو التخطيط، أو الاقتصاد والمالية، أو هيئة مرتبطة بمجلس الوزراء. مع أهمية أن تكون للجهة المعنية بالإدارة الاقتصادية الكلية ذات صلاحيات اقتصادية سيادية ملزمة تفوق صلاحيات الجهات التابعة لها. وأن العبرة دائما بالمعنى، لا بالمبنى، أي أن كفاءة هذه الإدارة، المفترض أن تحدد على أعلى الأسس المهنية الدولية. ومن التجارب الناجحة في الإدارة الاقتصادية، على المستوى الدولي، تجربة سنغافورة، التي أنشأت «مجلس التنمية الاقتصادية Economic Development Board»، عام 1961، ليكون مسؤولا عن الإدارة الاقتصادية، خاصة التصنيع، والسياسات اللازمة، والتعامل مع الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي كان له دور محوري في هذا البلد، حيث قام هذا المجلس، بعد رحيل البريطانيين عام 1959، بنقل البلد من اقتصاد شبه مغلق، وسيادة الأجور المنخفضة، واعتماد على الإنتاج كثيف العمل Labor Intensive، الى اقتصاد منفتح وجاذب للاستثمارات المحلية والأجنبية، ومركز تجاري تنافسي، ومنتج ومستخدم للتكنولوجيا المتطورة. وتم ذلك من خلال تقييم للاقتصاد الدولي، و»رؤية كفوءة» لواقع ومستقبل الاقتصاد، حيث بدأ المجلس أولا، خلال الفترة من 1959 إلى 1965، بسياسة إحلال الواردات Import Substitution، التي تقتضي إحلال عدد من السلع المستورة من خلال التصنيع المحلي، أي التحيز المحسوب اقتصاديا للتصنيع محليا على حساب الاستيراد. ثم انتقل المجلس «المسؤول الكفوء عن الإدارة الاقتصادية الكلية» الى المرحلة الثانية، بعد الخروج من الاتحاد الماليزي، خلال الفترة من 1966 إلى 1973، الى سياسة تشجيع الصادرات. وشهدت هذه الفترة انتشارا مكثّفا للاستثمار الأجنبي (المباشر) في الأنشطة الكثيفة العمل، ورافقها إعادة هيكلة للقاعدة الصناعية. وشهدت المرحلة الثالثة للفترة من 1973 إلى 1984، إعادة هيكلة صناعية. وبحلول عام 1985، المرحلة الرابعة، تم تحقيق اللحاق Catch Up بالتطورات التكنولوجية العالمية في المجال الصناعي، ثم انتقلت سنغافورة، بعد ذلك، الى تنويع القاعدة الصناعية، وتشجيع الخدمات المالية. علماً بأن كل هذه الإنجازات لم تتم بجهد وكفاءات محلية فقط، بل من خلال تعاون محلي/ أجنبي. ويتجسد هذا التعاون من خلال المؤشرات التالية (منذ بدء الإدارة الاقتصادية الجيدة أوائل الستينيات من القرن الماضي، وحتى نضوج النتائج التنافسية دوليا نهاية الثمانينيات)، ضمن مؤشرات عديدة أخرى: ارتفعت نسبة القيمة المضافة المولّدة بملكية أجنبية بالكامل من إجمالي القيمة المضافة، من 24.6 بالمئة عام 1962 الى 61.9 بالمئة عام 1988، وارتفعت نسبة هذه القيمة المملوكة بشكل كبير للأجانب من 49.4 الى 71.7 بالمئة، والمملوكة محليا بالكامل من 47.5 الى 14.9 بالمئة، تباعا. وتسري نفس توجهات هذه النسب على إجمالي الصادرات المملوكة بالكامل، أو بشكل كبير، للأجانب، أو ملكية محلية، كما تسري على انخفاض معدلات البطالة، والاستقرار الاقتصادي، وغيرها. وتسري هذه التجربة في الإدارة الاقتصادية الناجحة، من خلال مظلة مؤسسية كفوءة، على تجربة كوريا الجنوبية، أيضا، والتي اعتمدت على تأسيس تكتلات الشركات الكبرى Chaebol، التي تطورت الى شركات متعددة الجنسية، وتحت رعاية الخطط الاقتصادية الخمسية، كمظلة لإدارة الاقتصاد الكلي، التي بدأت بالخطة 1962 - 1966. وكان لكل خطة هدف مثل إحلال الواردات، وتشجيع الصادرات، والصناعات الثقيلة، وتعزيز الصناعات الكيميائية، والبتروكيميائية، وصناعة السفن، والصناعات المكثفة للمحتوى التكنولوجي، والانتقال التدريجي لمزيد من التحرر الاقتصادي لاحقا. وتسري، أيضا، على العديد من البلدان التي استطاعت، بإدارتها الاقتصادية الجيدة، أن تنجح في تخريج اقتصاداتها من مجموعة البلدان النامية الى مجموعة البلدان المصنّعة حديثا Newly Industrialized Countries، والى مجموعة البلدان الناشئة Emerging Countries. والآن، ما أهمية ذلك للاقتصاد الكويتي في مجال الجهة المسؤولة عن الإدارة الاقتصادية الكلية؟ يعتبر مجلس الإعمار، الذي تمّ إنشاؤه عام 1952، أول جهة مسؤولة عن الإدارة الاقتصادية الكلية، تلاه مجلس للتخطيط عام 1962، ثم وزارة التخطيط عام 1976، والمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية، عام 2004 (الذي آلت له اختصاصات وزارة التخطيط)، وذراعه الفنية الأمانة العامة للتخطيط. وطالما أن الحكمة هي الحكم على أداء أي جهة بنتائج أعمالها، فإن جميع هذه الجهات كانت ذات نتائج محدودة جدا في تنويع مصادر الدخل، والصادرات، وخلق قاعدة صناعية، وتطور تكنولوجي، وقطاع خاص تنافسي، ودور تنموي فعّال للاستثمار الأجنبي المباشر، واستدامة للمالية العامة والحساب الجاري، وإيجاد سوق عمل متوازن وتنافسي، وغيرها من الأهداف الاقتصادية. وعليه، هناك حاجة ملحّة للعمل على إنشاء جهة جديدة، أو إعادة تأهيل الأمانة العامة للتخطيط، تحل محل كل الجهات الحالية ذات العلاقة بالإدارة الاقتصادية الجزئية، تعنى بالإدارة الاقتصادية الكلية لدولة الكويت، وتنسق بين جميع المؤسسات الاقتصادية واللاعبين الاقتصاديين، وذات - كما أشرنا - صلاحيات سيادية. وأن تكون المعايير المستخدمة لاختيار العاملين في هذه الجهة مهنية بالكامل، وتتصف بالتنافسية مع كل الخبرات الدولية والإقليمية والمحلية. وينتج عن هذه الجهة تصور وسياسات مرحلية لتحويل الاقتصاد الكويتي من ريعي الى إنتاجي، في مراحل زمنية محددة، وتوفير كل المتطلبات الإدارية والمؤسسية اللازمة لذلك.
مشاركة :