تحديات استلهام الرواية التاريخية.. قراءة في رواية «حوض الفرنساوي» لـ مصطفى أحمد أبو المجد

  • 9/26/2024
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

«لا يوجد شيءٌ واضح وراء استلهام الروايات التاريخية، ربما كانت المتعة، ربما لم تكن». لا أذكر قائل هذه العبارة، لكنها واحدة مِن أفضل المقولات التي أجابت بصدقٍ وموضوعية عن سؤال: لماذا يلجأ الروائي لاستلهام الماضي أو الحدث التاريخي ليبني عليه روايتَه؟ هل هو هروبٌ من مواجهة الحاضر والرغبة في الإسقاط عليه بشكلٍ غير مباشر؟ هل هو الحنين إلى الماضي والرغبة في استعادته ومحاولة تمثّلِه من جديد؟ هل يتجلّى الإبداع والخيال في استناده إلى وقائعَ ماضوية أو أحداثٍ تاريخية، أكثرَ من تجلّيه في وقائعَ معاصرة؟ هل هي رغبة الكاتب في إضاءة حدثٍ بعينِه وإعادة قراءته وتحليلِه مرةً أخرى؟ تتعدد الاحتمالات والرؤى، ويَظل الولع بالروايات المستنِدة أو المنطلِقة مِن خلفيات أو أحداثٍ تاريخية ملمحًا روائيًا ونقديًا سائدًا ومنتشرًا في ثقافتنا العربية المعاصرة، ويمكن استدعاء مئات الروايات المصرية والعربية التي صدرت خلال السنوات العشر الأخيرة تستلهِم الماضي والتاريخي، أحداثًا أو شخصيات، فضلاً عن آلاف الروايات قبل ذلك، مثل بعض روايات نجيب محفوظ، ورواية الزيني بركات لـ جمال الغيطاني، أولاد الناس.. ثلاثية المماليك لـ ريم بسيوني، 1919 لـ أحمد مراد، الأنتكخانة لـ ناصر عراق، غيوم فرنسية لـ ضحى عاصي، يوسف كمال في رواية أخرى، لـ منى الشيمي.. وغير ذلك. وتطالعنا رواية "حوض الفرنساوي"، للكاتب مصطفى أحمد أبو المجد، الصادرة عن دار المجد العربي للنشر والتوزيع، واحدةً من هذه الروايات التي تستند أو تستلهِم التاريخ من خلال استدعاء تاريخ مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر، ومقاومة الشعب المصري لها، وهو ما يمثل –بالتأكيد- تحديًا كبيرًا للكاتب أو المؤلف أمام سيل الروايات السابقة عليه التي تناولت الحدث التاريخي نفسه، فالموسوعة الروائية المصرية محتشدة بعدد كبير من الروايات التي اتخذت من الحملة ومن موقف المصريين منها منطلقًا أو خلفية لسرد يمكن الزعم أنه شكّل ظاهرة تستحق البحث النقدي والمقارنة، من هذه الأعمال على سبيل المثال لا الحصر: رواية "غادة رشيد"، لـ علي الجارم، "العمامة والقبعة"، لـ صنع الله إبراهيم، "يعقوب"، لـ محمد عفيفي، "الأزبكية"، لـ ناصر عراق، "تل العقارب"، لـ أيمن رجب طاهر، "غيوم فرنسية"، لـ ضحى عاصي، و"سِرّه الباتع"، قصة قصيرة لـ يوسف إدريس. ويأتي الروائي مصطفى أحمد أبو المجد في روايته "حوض الفرنساوي"، ليلتقط واقعةً أو حدثًا بعينه أثناء حملة الفرنسيس على مصر ليبني عليه روايته، وهو تلك المعركة التي خاضها المصريون ضد الحملة الفرنسية في يناير 1799م. والتي اشتُهِرت تاريخيًا باسم معركة سمهود، وهو ما أشار إليه الكاتب نصًا في أول سطر من سطور روايته: "سمهود شمالي قنا في أواخر القرن الثامن عشر.." وسمهود قرية من قرى محافظة قنا، تقع شمال مدينة أبوتشت، وهي معروفة ومشهورة في تاريخ القرى والبلدان، فقدْ ذَكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان، وأشار إليها علي مبارك في الخطط التوفيقية، ومَر بها المقريزي في خططه أيضًا، لكنها نالت شهرةً أخرى إبّان دخول الحملة الفرنسية إلى مصر، والتي بعد نجاحها في الاستيلاء على طهطا وجرجا واصلت طريقها جنوبًا لتلاقي حشودًا ضخمة، وأعدادًا كبيرة من المصريين والمماليك والعرب، قَدّر المؤرخون عددهم بنحو ثلاثةَ عشرَ أو أربعةَ عشر ألف مقاتل، تحت قيادة مراد بك زعيم سلاح الفرسان المملوكي وحاكمِ مصر المشترِك مع إبراهيم بك وقتها.. تَجمعوا كلهم في قرية سمهود هذه، وفي ساحةٍ من ساحاتها عُرفت -فيما بعد- باسم "حوض الفرنساوي"، وهو الاسم الذي اختاره كاتِبنا عنوانًا لروايتِه. والرواية تمنح نفسها سهلةً وطيعة لأي قارئ، وإذ جاز لنا أن نتحدث عن فكرتها العامة فهي التكريس لقيمة الوطن والدفاع عنه، مِن خلال تسليط الضوء على كفاح شعب ضد غازٍ أو محتل، وليس أدلّ على ذلك من هذا السطر الذي وضعه مؤلف الرواية على غلاف الرواية تحت عنوانها "عندما تشتد النوازل.. نفر جميعا إلى الوطن"، ليكون أول ما يطالعه القارئ، ولا يكتفي المؤلف بهذا، بل يجعل السطر نفسَه آخر ما يطالعه القارئ أيضًا وهو ينهي الرواية. ولا يرى المؤلف بأسًا أن ينسج على هامش فكرته العامة قصة حبٍ لم تنتهِ نهاية سعيدة، لكن متى كانت الكتابات الأدبية شعرًا أو سردًا بأفكارها العامة أو بهوامشها؟ إنما الكتابات بكيفيتها وماهيتها، بلغتها وأساليبها وطرق بنائها، بقدرة الكتّاب على الإثارة والتشويق وخلْق مساحاتٍ جمالية، وفضاءاتٍ وعوالمَ جديدة، وبقدرتِهم على طرح المعنى في صورٍ وأشكالٍ غير تقليدية، وهو ما يمكن أن نتناول بعض ملامحه وتجلياته في رواية "حوض الفرنساوي"، من خلال عدة محاور: حضور الواقعي والتاريخي وغياب المتخيَّل قلنا إنّ الرواية التقطت حدثًا تاريخيًا في لحظةٍ زمنية بعينها، وقامت بروايته واستدعاء أطرافه وتفاصيله كاملة دون زيادة أو نقصان، وهو مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر واشتباكها مع المصريين في معركة سمهود، وواضح تمامًا اعتماد المؤلف على المصادر التاريخية التي أشارت للمعركة ولتفاصيلها، ولعدد أفراد الجيش الفرنسي، ولتقسيمِه على أرض المعركة، ولمكان المعركة نفسه، ولأسماء القوّاد والجنرالات العسكريين (ديزيه، بليار، دافو، فريان). وبالتأكيد ليس مطلوبًا من المؤلف تغيير أعداد المحاربين مثلاً، ولا حتى تغيير أسماء القادة، لكن المطلوب في الفن الإضافة، اختلاق حيلة فنية، توظيف ظاهرة طبيعية مثلاً. والحق أن المؤلف امتلك خيطًا كان يمكن أن يستثمره فنيًا، لوهو ظهور "عائشة" في آخر الرواية كـ راوية، وهي في الثمانين من عمرها، لنفهم كقرّاء أنها كانت تروي لحفيدها هذا الذي قرأناه. حضور الموروث الشعبي في الرواية وهو ما يتسق مع روايةٍ تدور أحداثها في قريةٍ مصرية من قرى الجنوب، وتَمَثل هذا الحضور في عدة مستويات، لعل أكثرها إشراقًا كان في الموروث الأدبي (الموّال أو المربّع) وهو ما تم استدعاؤه في الفصل الأول عبْر أربعة نماذج، وتكرر في فصولٍ أخرى متفرقة، كالفصل رقم (18). تَمثل حضور الموروث الشعبي أيضًا فيما يمكن أن نطلق عليه التصورات الذهنية عن الجن أو العفاريت، ورؤيةِ أشباح الموتى، كخروج سالم-المقتول- "بعد موتِه بسبعة أيام، في ثوب أخضر فضفاض، وعمامة سوداء". وكذا الإشارة إلى "مخلوقات جنيّة طويلة الأجساد شديدة السواد، تخرج من رأسها قرون، وذات أظفار طويلة متعرجة حادة، تسير ليلًا" وكذا الاعتقاد في أن أحلام الأطفال تمتلك قدرة على إرسال إشارات يمكن تحققها، وهو ما حدث في حُلم الطفلة "عائشة"، كما يمكن اعتبار الإشارة إلى كثير من المِهن والحِرَف والزراعات، والإشارة إلى أسماء أوانٍ وأدوات لم تعد موجودة الآن، نوعًا من أنواع استدعاء الموروث الشعبي، وهو ما دفع المؤلفَ لشرح بعض معانيها في هوامشَ ببعض الصفحات. كما لم ينسَ المؤلف أن يورِد على لسان "حبيبة" قصةً أسطورية تفسر ما هو شائع في الثقافة الشعبية من أن "سمهود" تشتهر بأن الفئران لا تأكل زراعاتها، عندما قصّت على الطفلة أن شيخًا صاحِبَ طريقة أخذ عهدًا على فأرٍ ضخم ألا يؤذي القرية وأهلها! سيطرة الحس الديني الحديث هنا ليس عن الكاتب، ولكن عن الرواية، واللغة، والأسلوب، فأنْ يكون الكاتب- أي كاتب- ذا حسٍ ديني ليس هذا عيبًا، لكن أن يسيطر الحس الديني على عملٍ أدبي دون أن يكون هناك سبب فني.. فهذا ما يستحق المناقشة. فالرواية من أولها إلى آخرها على مستوى اللغة، ومستوى اختيار أسماء الأشخاص، ومستوى تركيب الجملة، ومستوى حوار الشخصيات تتحدث بحس ديني يمكن أن يكون مفهومًا لو أننا نتحدث عن فترة الخلفاء الراشدين مثلاً، أو عن مكانٍ دخل أهلُه حديثًا في دينٍ جديد، لكننا هنا نتحدث عن نهاية القرن الثامن عشر.. وها هي الرواية تبدأ بمقولةٍ منسوبة للإمام علي بن أبي طالب، تقول: "الناس نيام.. فإذا ماتوا انتبهوا"، لم تبدأ الرواية بعبارة لها علاقة بالجهاد ولا الدفاع عن الوطن، ولا بجملة على لسان مستعمِر أو جنرال فرنسي له علاقة بالحدث الرئيس للرواية، لكنها بدأت بجملة تتحدث عن الموت، جملة تثير في النفس أحاسيس الخوف من المجهول، ومشاعر الحسرة والألم على ما قد يكون المرء قد أفرط في نومِه ولن ينتبه إلا إذا مات! ولسوف يكون القارئ محقًا وهو يتساءل ما علاقة هذه الجملة الافتتاحية بالرواية؟ لا توجد أي علاقة غير أنها وردت على لسان عمّار-أحد أبطال الرواية- وهو يخاطب زوجه في الفصل (18). "النوم أغرقنا والفرنسيس حكموا علينا بالموت.. والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا يا أم سالم" لا شيء أكثر ولا أقل من هذا، لا الجملة ولا قائلها الإمام علي لهما علاقة بالرواية ولا بحدثها الأكبر، فالناس في الرواية نفسها لم يكونوا نيامًا وجاءت حملة الفرنسيس لتنبّههم بالموت، فقدْ كان المماليك موجودين قبْل الفرنسيس، وكان الناس يعيشون في ضنك وعذاب أيضًا، فلا يمكن الزعم هنا أن المقصود أنهم كانوا نيامًا وأيقظتهم الحملة الفرنسية بقتلهم فانتبهوا! لو تركنا الجملة ودلالاتها يمكن أن نقف مع شخوص الرواية واختيار أسمائهم: عمّار، إبراهيم، الشيخ الإدريسي، عائشة، زينب.. سيلاحظ القارئ أن "بعد وفاة ابن عمار بأيام، انهال شيخ البلد بكري، بالضرب المبرح على عمار أمام أهل القرية وحبسه في.." إذًا، لا يأتي اسم عمّار اعتباطًا ولا صدفة، فالتاريخ الديني يحمل لنا اسم "عمّار بن ياسر" الذي تعرّض للتعذيب، وهذا عمّار أبو سالم يتعرّض للتعذيب على يد شيخ القرية. إبراهيم أيضًا في الرواية هو المتعلم، بل يمكن القول إنه المثقف الوحيد في الرواية، يقول لـ حبيبة التي تعطيه حجابًا ليحميه: "الحجاب دجل يا حبيبة.. الله الحافظ" وهو الوحيد الذي يسافر للبيع والتجارة، بل إنه يعقد مقارناتٍ ثقافية بين "حكام منعمون في رغد العيش، وشعوب تئن تحت وطأة الاستعباد والذل"ويتأمل في سقوط الأمم، ويتذكر قصة سيدنا نوح، ويحدّث مياه النيل عن هديرها أين ذهب، وهو الذي يؤكد أن "عوامل النصر موجودة، لكننا نتحدث دائما بأن الزمن لم يمهلنا". وهو الذي يصرخ في الناس طالبًا منهم أن يتركوا الخزعبلات؛ فـ "الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحارب بالسيوف والرماح.. لا برفع الصوت والنباح". وعشرات الإشارات التي نفهم منها أن اسم "إبراهيم" هذا لا بدّ أن يحيل إلى سرديةٍ دينية أخرى احتل فيها اسم إبراهيمَ مكانةً رفيعة، ومرتبةً عالية. ولا أظن أن اسمَي عائشة وزينب في حاجةٍ لإشارة، صحيح أنهما طفلتان في الرواية، لكنّ إحداهما وهي "عائشة" رأت حُلمًا مهمًا تم تأويله في نهاية الرواية، كما أنها عاشت حتى بلغت الثمانين عامًا، وبدا وكأنها تروي لحفيدها قصة سمهود وأحداثها. هل انتهت تجليات الحس الديني عند هذا الحد؟ لا، لم تنتهِ، فأسلوب الكتابة نفسه وتركيب الجُمل كانا واقعيْن تحت هذا التأثير، وعلينا أن نفرّق هنا بين الجُمل والعبارات ذات الحس الديني التي ترِد على لسان الشخصيات، وبين التي نقصدها التي ترِد وصفًا وسردًا على لسان الكاتب أو الراوي، فما يرِد على لسان الشخصيات قد يكون طبيعيًا ومتسقًا مع الشخصية، ككل الجُمل والعبارات التي وردت على لسان الشيخ الإدريسي مثلاً، فهو شيخ ورجل دين.. لكن هناك أمثلة أخرى ليست على لسان الشخوص: "وقعت الواقعة" "ربما حكمة من الله في سمائه، جرى بها القلم في الأزل" "وما ربك بظلام للعبيد" "أما إبراهيم فأنجاه من شقَّ البحر لنبيه موسى ليعبر هو وقومه" "فبكت ما شاء الله لها أن تبكي" "زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر" مستويات لغة السرد ولغة الحوار مِن المفهوم تمامًا انتماء لغة الحوار في فن الرواية إلى اللغة التاريخية زمن الأحداث، بمعنى أن رواية تتناول العهد المَلَكي في مصر، لا بدّ وأن يكون حوار شخوصها دالاً في ألفاظه على تلك ثقافة تلك الفترة ومفرداتها، وكذا لو أن رواية تتناول أحداثًا يعيش أهلها في عصر الفضاء والإنترنت لا بدّ وأن تكون لغتهم حديثة ومعاصرة.. وهكذا. لكن الراوي في العمل الروائي لا علاقة له بهذا، فهو يروي بلغة عصره الذي يعيشه، وينتقل مستوى اللغة فقط في حالة حوار شخوص الرواية أو الأبطال. في رواية "حوض الفرنساوي" يمكن رصد أكثر من مستوى لغوي، يبدأ من مستوى لغة الراوي.. ولنقرأ هذا المقطع: "لملمت الشمس أشعتها، ومالت نحو الغروب، فألقى الليل على سماء سمهود أستاره، وسكنت أنفاس القرية في الظلام الدامس، إلا من صراخ أطفال تحاول أمهاتهن هدهدتهم، وأصوات بهائم مهتاجة في زرائبها، ونباح كلاب ضالة في الشوارع، ونقنقة ضفادع لاذت بحواف الترع" هذه لغة سردية غير معاصرة، لغة كلاسيكية تخلو من تقديم أو تأخير، تخلو من التفات، تخلو من مراوغة حذف أو إضمار.. لا بدّ وأن يتنسّم القارئ فيها رائحة محمد حسين هيكل، أو محمد عبد الحليم عبد الله. وها هو مقطعٌ آخر يؤكد ما نذهب إليه: "بدأ الشتاء يتوغل، وراح يفرض سطوته واستبداده على كل شيء، على الأشجار التي نزعت أوراقها فظهرت كجسد عار، وعلى البشر الذين تسلل البرد في عظامهم فصنع منها مستقرًا نام فيها، وعلى السماء التي تلبدت بغيوم متفلتات، ما تلبث أن تتحول إلى أمطار غزيرة تقرع بشدة سقوف البيوت فترخيها وجدرانها فتذيبها، حتى مياه النيل لم تسلم من أنياب الشتاء فأصبحت كالروح الثائرة التي تصرخ في الظلمات، وحدها الشمس هي من لا يستطيع الشتاء أن يصارعها، فما إن ترسل أشعتها حتى تركض لسعات البرد مذعورة كفأر جبان. " لكننا رغم ذلك يمكن التماس العذر في هذا المستوى إذا تَذكّرنا أن الراوي هنا هو "عائشة"، التي فاجأنا بها المؤلف في نهاية الرواية، ولمّا كانت في الثمانين من عمرها فلا بدّ أن تنتمي لغتها إلى هذه المرحلة التاريخية القديمة، لكن سيظل سؤال القارئ المعاصر مطروحًا: ما علاقتي أنا ابن القرن الحادي والعشرين بلغةٍ تنتمي للقرن الثامن عشر أو التاسع عشر؟! هناك مستوى آخر خاص بلغة السرد ولغة الحوار في الرواية، حيث لم نجد فرقًا بينهما، فلغة الراوي أو (الراوية) هي نفسها اللغة التي جرت بها ألسنة شخوص الرواية، لا فرق بين لغة إبراهيم المثقف، وعمّار عامل دق الطوب، ولغة الشيخ الإدريسي رجل الدين، ولغة حبيبة التي تعلّمت القراءة والكتابة في الكتّاب وحفظت أكثر من نصف القرآن وهي صغيرة، ولغة رزق الذي يعمل بالفأس في الأرض، بل يمكن القول إنها لم تختلف حتى عن لغة الجنرالات الفرنسيين الذين أجرى المؤلف على ألسنتهم كلامًا وحوارات. وهو ما لا يتفق مع فكرة اختلاف الشخصيات، وتباين حظوظها من التعليم والوعي والثقافة، حتى لو قلنا إننا أمام شخوص عاشت في القرن الثامن عشر لم تنل حظوظا من تعليم، فنحن هنا لا نتحدث عن تعليم، بل نتحدث عن مستويات الوعي والمعرفة، إذ لا بدّ من وجود فروق تظهر في كلامهم واختيارهم لمفرداتهم، فكلام رجل الدين ومفرداته يختلف عن كلام الشاب صغير السن، متعلمًا كان أم غير متعلم، يختلف بدوره عن كلام العامل في الحقل.. يختلف عن كلام أمّ سالم.. وهكذا إلخ. ملاحظات عامة على الرواية -كان أمام المؤلف أكثر من مستوى يمكن استثماره وتوظيفه في بِنية الرواية؛ لتأخذ الرواية شكلاً آخر لا يمنح القارئ كل شيء، كتوظيف الموروث الشعبي، أو إضافة متخيّل أو عجائبي أو غرائبي، أو حتى توظيف تيمة الأحلام، كان يمكنه أنسنة الأشياء كالليل الذي رأيناه يتكلم طوال صفحتين كاملتين في فصل (10) وكذا نهر النيل الذي كان يحدّثه إبراهيم.. لكنه -أي المؤلف- أهدر كل ذلك ليبدو وكأنه يوثّق فقط لحدثٍ تاريخي. -في الرواية ثغرات سردية كان يمكن تجاوزها، مثال ذلك ما ورد في الفصل (11) على لسان حبيبة من أن غيبة إبراهيم طالت لشهرٍ كامل، لكن في فصل (12) تعرض المؤلف للحظة وصول إبراهيم لمقر رحلته، ثم سيره على قدميه، ثم دخوله مسجدًا، ثم استيقاظه جزعًا على أصوات الناس وهروبِه وعودته إلى قريتِه فورًا! فكيف يكون ذلك كذلك؟! -على المستوى الإنساني، للإهداء كل تقدير وإجلال، لكن على مستوى الأدب والفن نتعامل معه على أنه مستوى من مستويات الكشف والدلالة، وقد جاء في الرواية تقليديًا، وطويلاً أكثر من اللازم، وكان يمكن إيجازه واختصاره في السطرين الأخيرين: "إلى من رباني وعلمني وجاهد أن أكون كما يريدني. إلى أبي.. إلى روحك النقية الطاهرة.. أهدى هذه الرواية"، لكنه بدأ الإهداء بما يشبه قصة قصيرة لا علاقة لها بالرواية. أشرف البولاقي شاعر وكاتب وناقد مصري ولد في 19 أغسطس 1968. يشغل حاليًا منصب مدير الثقافة العامة بفرع ثقافة قنا. من دواوينه «جسدي وأشياء تقلقني كثيرًا»، و«سلوى وِرد الغواية» و«واحدٌ يمشى بلا أسطورةٍ»، و«والتينِ والزيتونةِ الكبرى وهند» فضلًا عن مؤلفات أخرى في النقد والسرد والأدب الشعبي والخطاب الديني

مشاركة :