لماذا يعد الشرق الأوسط موطنا للنزاعات؟ لماذا العالم العربي دون غيره يعاني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ وإلى أي مدى تعتبر هذه المنطقة مطمعا للدول العظمى؟ وهل لا يوجد بديل يحقق رغبة تلك القوى في الهيمنة والسيطرة على الموارد؟ أسئلة تطرح في المجالس والدراسات والبرامج الإعلامية. ومن سوء الحظ أنه لا توجد إجابة واحدة مقنعة، وإنما هناك اجتهادات وتأويلات، بعضها علمي موضوعي وبعضها يتكئ على نظرية المؤامرة، وهي في العادة سهلة وقابلة للتداول من عوام الناس. وجهة نظري المتواضعة أن للمسميات دور في تعميم التشخيص، فالشرق الأوسط، والعالم العربي، والأمة الإسلامية أوصاف عاطفية تتعارض مع مفهوم الدولة الحديثة ذات السيادة. وإذا ما أردنا قراءة موضوعية فعلينا أن نتواضع قليلا وأن نسمي الأمور بمسمياتها. العالم العربي اخترعه ورسخه القوميون العرب، ونشروه في تغذية مركزة في طوابير الصباح في ساحات المدارس «بلاد العرب أوطاني»، والأمة الإسلامية قولبته جماعات الإسلام السياسي بكاء على أطلال الخلافة الإسلامية، والشرق الأوسط استخدمه الأمريكيون في مبدأ إيزنهاور عام 1957م، وأحد مبررات رواجه السياسي إدماج إسرائيل في بيئة ذات عنوان واحد، لما لوحظ من نفور محيطها منها باعتبارها دولة محتلة. لأن المسميات تمثل مشكلة فقد ارتبط العالم العربي في ذهن الآخر بالتخلف، والشرق الأوسط بالصراعات والفوضى، والأمة الإسلامية بالإرهاب والتطرف، ولا أعتقد أن تجمعات إقليمية أخرى في هذا العالم تعامل وفق هذه التنميط الظالم. ليس هذا فحسب، وإنما تحملت دول ناطقة بالعربية أعباء الدفاع عن عالم أو أمة عربية غير موجودة سوى في رومانسيات القرن الماضي، وتحملت الدول الإسلامية طموحات وأوزار الخلافة الإسلامية، وحُمّل الشرق الأوسط مغامرات دول مارقة لا تعترف بالنظام والقانون الدولي ولا تحترم سيادة دول الجوار. ولأن الشرق الأوسط أصبح مشكلة، فكان لابد لأمريكا وقد تربعت على عرش العالم منذ نهاية الحرب الباردة أن تجرب اجتهاداتها في إيجاد حلول جذرية للمشاكل. توالت المبادرات والمقاربات من كيسنجر إلى بلينكن، وباءت جميعها بالفشل الذريع؛ الناعم منها والخشن. في سياق تعامله مع الشرق الأوسط قال وارن كريستوفر ذات مرة «تجنب المواجهة لصالح التفاوض مع الأصدقاء والأعداء على حد سواء»، وفي عهده، ورئيسه كلينتون نشطت المبادرات السلمية، وخلال فترته وزيرا للخارجية الأمريكية (1993-1997)، زار بلدان الشرق الأوسط 100 مرة؛ خمس زيارات إلى المملكة، وثمان إلى الأردن، ومثلها إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، و15 زيارة إلى مصر، و29 زيارة إلى سوريا، و34 زيارة إلى إسرائيل. على النقيض فإن خليفة كلينتون اتخذ عقيدة خشنة، فمبدأ الرئيس بوش الابن تشكل من ثلاثة محاور هي الغزو، والديمقراطية، وأحجار الدومينو. بمعنى آخر الإطاحة بحكام الشرق الأوسط (ما عدا إسرائيل)، وإنشاء حكومات مؤقتة من المنفيين المعارضين في الخارج، لتكون تلك الدول نماذج في الرفاه والديموقراطية، وعندها تصاب بقية الدول بالعدوى وستسقط كل الأنظمة «الدكتاتورية» في المنطقة مثل أحجار الدومينو، ويصبح الجميع أصدقاء لإسرائيل. النتيجة أن العراق تم تسليمه لإيران، ضمن تشكيل الشرق الأوسط الكبير، ففتحت نار جهنم على «العالم العربي»، وبدلا من الرفاه انتشر الإرهاب وعمت الفوضى، وتوسعت قواعد اللاعبين خارج نطاق الدولة. ثم جاءت عقيدة باراك أوباما، فكان الربيع العربي قائما على جماعات الإسلام الساسي السني والشيعي، بمزاعم قدرتها على استنبات الديموقراطية في أرض قاحلة، ومن ثم تحاط إسرائيل بقوى ديموقراطية تدين بالفضل لأمريكا التي أحدثت التغيير، وتنعم الدولة اليهودية بالأمن والترحاب. وبكل عولجنا، ولم يزد الدواء عللنا إلا بؤسا، لأن المقاربات خاطئة، والتشخيص افتراضي، والفجوة بين الواقع والطموح كبيرة جدا. لا الدول الناطقة بالعربية قادرة على صناعة عالم عربي تشرئب له أعناق العرب منذ العهد الناصري، ولا الدول ذات الأغلبية المسلمة تخلت عن سيادتها الوطنية لتشكيل الأمة الإسلامية، ولا الشرق الأوسط استطاع أن يبلع إسرائيل، فقد كانت مثل المسمار في الحلق، المستعصي على الإدماج في السياق العام. لن تجدي النظريات السياسية نفعا في تشخيص حالة الشرق الأوسط المزمنة ما لم نعد النظر في تحرير المصطلحات، ما يقتضي التعامل مع دول ذات سيادة، بعضها أحرز تقدما في مجالات الأمن والاستقرار والرفاه وعلى مديات طويلة، وبعضها دون ذلك، وصنف ثالث غارق في الفوضى والاحتراب الداخلي، تتنازعه طموحات النخب وتدخلات الخارج، ودولة محتلة هي الوحيدة في القرن الواحد والعشرين. تستطيع الدول أن تنظم علاقاتها وتكتلاتها في المنظمات الدولة والإقليمية دون الحاجة إلى مسميات فضفاضة رومانسية تخلق المشكلات دون أن تسهم في حلها مثل العالم العربي، والأمة الإسلامية، والشرق الأوسط. تستطيع هذه الدول التعاون وحتى الاتحاد، ولكن من خلال أدوات معاصرة تحكم العلاقات الدولية متعددة الأطراف.
مشاركة :