يشيع نواب محافظون وبعض الصحف الايرانية المقربة من الحرس الثوري، الجسم العسكري المتطوع والمستقل عن القوات المسلحة ومجنديها، أن النفط الايراني في قبضة «مافيا» استولت عليه وصادرته. ويزعم النواب والصحافيون أن الفساد والارتشاء يسودان وزارة النفط، وان الخبراء التكنوقراط إذا لم يكونوا غافلين عن الأمر فهم يخونون المصالح الوطنية، ويقتسمون عوائد الذهب الأسود، ويبيعون إيران من الدول الأجنبية. وحجتهم هي أن شركة النفطة الوطنية الإيرانية تستدرج عروض شركات مثل «شيفرون» و «إكسون موبيل»، وتغازل أميركا! والمسؤول الأول عن هذه «الكارثة» هو تكنوقراطي قصير القامة، قوي الشكيمة ومتستر، يتكلم من غير استعجال ولا انفعال، وفي عينيه دهشة مزمنة، اسمه بيجان زنغنه (زنكنه)، 63 سنة قضى منها 20 على رأس وزارة الطاقة ثم وزارة النفط، وتولى إحدى أثقل الحقائب أو الوظائف في إيران. وهو من أوكل إليه، الرئيس حسن روحاني ملء خزينة الدولة بالأموال، في أعقاب 10 سنوات من العقوبات الدولية امتصت عوائد الخزينة وشاركتها في الامتصاص سياسات شعبية ومرتجلة انتهجها سلف روحاني، الباسدران محمد أحمدي نجاد، بين 2005 و2013. وحسن روحاني ووزيره يؤكدان أن النفط هو مصدر الخلاص وحزام الانقاذ. ويقتضي تولي النفط هذا الدور تجديد التجهيزات المتآكلة التي اضطرت شركة النفط الوطنية الى ارتجالها غداة انسحاب الشركات الأجنبية والعقوبات الدولية منذ 2006- ومعظم العقوبات رفع في كانون الثاني (يناير) من العام الجاري. ويتوقع بيجان زنغنه أن تؤدي عودة شركات النفط الكبيرة الى انشاء البنية التحتية الجديدة وفي جعبتها التكنولوجيات الضرورية والحيوية. وتقدر شركة وود ماكينزي للدراسات بـ135 بليون يورو احتمالات الاستثمار في 49 مشروعاً إنمائياً تعد إيران العدة للاستثمار الأجنبي فيها في شراكة مع الشركات المحلية. ويرفض الحرس الثوري خطط وزير النفط التي تفضي الى انتزاع الشركات الأجنبية شطراً راجحاً من السوق، ولا يريد الحرس التخلي عنه. فجنرالات الجسم العسكري تحولوا ربابنة وقادة صناعيين، وكانوا جزءاً غالباً من «اقتصاد المقاومة» الذي دعا إليه المرشد علي خامنئي في اثناء الأزمة النووية. وقيمة منشآت الحرس وشركاته طي الكتمان، والحكومة تشترك مع الجمهور في جهله بها. والخبراء يقتصرون على التخمين ويقولون انها تبلغ مئات بلايين اليورو. وهي تشمل قطاعات البناء والطاقة والبتروكيماويات والاتصالات الالكترونية والمواصلات واستيراد سلع الاستهلاك والسلع الفاخرة والمصارف... فالحرس استثمروا في كل المرافق، واستعانوا بشركات ووكالات يملكونها وبأخرى هم مساهمون فيها، واستثمروا فيها من طرق صناديق جمعوا فيها حسوماتهم التقاعدية وموارد ضماناتهم الاجتماعية. ووسعوا نفوذهم الاقتصادي والمالي بواسطة موجة استملاك شركات ومرافق أتاحتها اجراءات التخصيص (والخصخصة) تزامنت مع جلاء الشركات الأجنبية المستبعدة. ومنذ 2006، استولوا على جزء من القطاع النفطي بعد ان كان موصداً بوجههم. وفي ذروة العقوبات حسِب مراقبون محليون بطهران ان الحرس الثوري مقبل على السيطرة على مقدرات إيران كلها في غضون سنوات قليلة. وفي عهد أحمدي نجاد، حلّ جنرال سابق، هو رستم قاسمي، محل بيجان زنغنه. وكان الجنرال قاسمي حين عين على رأس وزارة النفط أحد المسؤولين عن مؤسسة «خاتم الأنبياء»، وكالة الحرس الثوري الهندسية. ويقدر أن المؤسسة تملك اليوم 30 في المئة من قطاع الهندسة. وتتولى المؤسسة بناء منشآت حقل بارس الجنوبي، أكبر حقل غاز في العالم. وتحتفظ الشركة الوطنية الايرانية بحصرية استخراج الغاز، ولا تشاطرها حقوق الاستخراج جهة أخرى، محلية أو أجنبية. فعمد الحرس الى الاستثمار في الحلقات الأخيرة من سلسلة الانتاج، في التكرير والبتروكيماويات. ولم ترفع الى اليوم العقوبات عن شركات كثيرة تملكها مؤسسة «خاتم الأنبياء». وتلاحظ وزارة الخزينة الأميركية أن موارد هذه الشركات تغذي عمليات عسكرية في الخارج يتولاها «الحرس» الذي يدير 120 ألف جندي، ويجهز قوات تحارب في سورية والعراق، وقلما يولي عنايته خطوط الاستثمار. ويرعى الحرس الثوري منظمات عسكرية سياسية مثل «حزب الله» الذي تصنفه الولايات المتحدة كياناً إرهابياً. ويصيب التصنيف الأميركي وعقوباته الشركات الفرنسية والألمانية واللبنانية التي تربطها علاقة بعيدة أو غير مباشرة بمصالح أميركية. وينبه بيير فابياني، مدير «توتال» النفطية سابقاً بإيران ونائب مدير شعبة إيران في رابطة الشركات النفطية والغازية الفرنسية، الى ان السياسة الاميركية لا تتهاون في هذه المسألة أبداً. ويقول: «أنصح كل شركاتنا بالتحري عن أي علاقة محتملة قد تكون لشركائنا التجاريين بالحرس، وإذا تحقق ذلك أنصحها بقطع هذه العلاقة». وتعود بدايات اضطلاع الحرس بدور في الاقتصاد الايراني الى 1988، حين وضعت الحرب العراقية- الايرانية (1980-1988) أوزارها، بعد أن أودت بمليون قتيل. وتولت القوة التي أنشأها متطوعون في موازاة جيش غير مضمون الولاء يومها، شطراً راجحاً من مهمات الإعمار بعد الحرب في قطاع الابنية التحتية. «لم يكن في خزانتنا قرش واحد، وعاد آلاف الشبان من الحرب وصدورهم تضطرم بتوقعات عريضة، ولا معامل أو مصانع لتستقبل سواعدهم»، يتذكر محمد صدر هاشمي نجاد، مؤسس شركة «بناء ستراتوس» («ستراتوس للمقاولات»)، في سبعينات القرن الماضي. و «كان الحرس يملك تجهيزاً آلياً ثقيلاً لا يدري كيف يستثمره، فجمعه في هيكل إداري سماه خاتم الانبياء، وقالوا للشباب: «هيا! شمروا عن سواعدكم». ومذذاك، يحسب صاحب «ستراتوس» كل عقد لبناء جسر أو شق طريق ورصفها ينتزعه من الحرس خطوة أولى على طريق اقتصاد سوق إيراني واعد. وهو يعرف أن الطريق طويلة. وعلى خلاف رأي شائع، ليس الحرس كتلة سياسية واحدة ومتماسكة. ولكن سلكهم في إمرة المرشد مباشرة. وعندما وجه علي خامنئي، في 20 آذار (مارس)، تهنئته الى إيران في مناسبة السنة الجديدة (عيد النوروز)، جاءت التهنئة في صيغة تحية حارة الى الحرس. فمدح الاكتفاء الاقتصادي الذاتي وندد بتأخر مفاعيل الاتفاق النووي. ولم يكف عن إدانة سياسية الانفتاح التي يدعو إليها الرئيس روحاني، ولا عن وصفها بالسذاجة. ولكنه استقبل رئيس الحكومة الايطالي، ماتيو رينزي، حين زار طهران وفي جعبته عقود استثمار كثيرة. واقتصر تراجع حسن روحاني على اللغة والمصطلح. فاسترجع مقالة المرشد في «المقاومة»، ومضى على عزف موسيقى الانفتاح الدولي من غير صناجات. وهو يأمل في تليين الخزينة الاميركية نظام عقوباتها، ورفع المعوقات التي تحول دون تمويل المصارف الدولية خطط المستثمرين المنتظرين. ويدور سؤال خافت على شفاه الإيرانيين: هل يريد الرئيس الايراني فعلاً تقليص نفوذ الحرس الثوري؟ الأمر الثابت هو أن على الحرس، بموجب قرار رئاسي، أداء ضريبة عن أعمالهم، على خلاف سياسة قضت الى اليوم بإعفائهم من العبء الضريبي، ومن دون عائد الضريبة المتوقع في موازنة العام الجديد. ويبقى الاختبار العملي المترتب على القرار. وسبق أن أعلنت الحكومة، في كانون الأول (ديسمبر) 2015، عزمها على المفاوضة مع منظمة التجارة العالمية على انضمام إيران إليها. ويلزم الانضمام شركات القطاع العام، أي شركات الحرس، بمحاسبة شفافة ومعلنة على رؤوس الأشهاد. وتنوي الحكومة خصخصة شطر كبير من المرافق التي تملكها. والدولة تملك 70 الى 80 في المئة من الاقتصاد الوطني. فليست الخصخصة، في هذه الحال، بالأمر اليسير. ولا يهون القطاع الخاص الإيراني من الأعباء المنتظرة، ولكنه يرى في الخصخصة فرصة عظيمة. ويلاحظ محمد أوترديان، رئيس اتحاد روابط أصحاب العمل الإيراني، أن الحرس يقصر عن المنافسة. وهو شاهد على ضعف تنافسية الحرس في ميدان البناء الذي يعرفه أوترديان عن كثب، ويملك إحدى الشركات الكبيرة فيه: «هم يفوزون بعقود حكومية حيث لا تسري مناقصات عامة وعلنية، ويلجأون بعدها الى توزيع الاعمال على وكلاء ثانويين، أي أنهم أقوى من الوكلاء، ويفرضون عليهم شروطهم». ويتساءل الرجل: «ماذا في مقدور محافظ منطقة أوصى الجيش على إنشاء جسر أن يصنع إذا لم يلبِّ الجيش شروط العقد؟ لا يسعه إلا التسليم بشروط الملتزم العسكري الذي يسانده النظام في كل الاحوال. فإذا امتنعت الحكومة عن مساندة الملتزم خسر هذا ضمانته واضطر الى التخلي عن أعمال غير مدعومة». ويرى محمد صدر هاشمي نجاد ان الحكومة غير مضطرة لمواجهة الحرس أو منازلته، وما عليها إلا فتح الباب في وجه الشركات الأجنبية. فليست المسألة الأولى حصة مؤسسات الدولة من العوائد والالتزامات بل هي حجم الاقتصاد الايراني، وعلى هذا الحجم ان يتضاعف مرتين لتقوم قائمة لمنافسة حقيقية توفرها الشركات الأجنبية، و «إذذاك يفقد الحرس مكانته». والحق يقال أن انتقاد الحرس، على هذا النحو المباشر، نادر في إيران. وهو قرينة على المصدر الذي تهب الريح منه، وعلى الاحتمالات التي ترتسم في الأفق. وأصحاب الملاحظات المتحفظة هم رجال أعمال باشروا الحياة المهنية قبل الثورة، وخالفوا سياسة الباسداران أعواماً طويلة. وينتهج رجال أعمال آخرون طريقاً براغماتية. ويقول أمير سيروس رزاعي، رئيس شركة «استشارات آراء انتربرايز»: «يشق روحاني الطريق ليتولى القطاع الخاص ما يقوم به الحرس في قطاعات كثيرة، وهو يبدو عازماً على قصر أعمال الحرس الاقتصادية على بعض الأنشطة الاستراتيجية مثل البنية التحتية وربما الطاقة والاتصالات حيث يضطلعون بالإدارة على خير وجه». وأظهر الحرس في بعض الأعمال مرونة إيديولوجية مدهشة. ففي 2014 شاركوا في رفع الرقابة عن نظامي G3 وG4 في الاتصالات الهاتفية الجوالة، وهو قطاع ترك الى عهدتهم قبل 5 سنوات، وأنشأ المرشد مجلساً أوكل إليه التحكم في شؤون القطاع. وحذر المجلس، وماشاءالله أحد كبار آيات الله، ناصر مكارم الشيرازي، الدولة من بث صور فوتوغرافية وأشرطة فيديو على الانترنت السريع تخالف القيم الأخلاقية وتنتهك الحياء والدين. ولكن كفة المصلحة الاقتصادية كانت هي الراجحة، ولم يأخذ الحرس بتحذير مجلس التحكيم والمرجع الكبير. ويتذرع بعضهم بهذه السابقة للقول ان الحرس قد يغتنم فرصة الانفتاح وينتهزها، شأن القطاع الخاص، وبعض شركاته يديرها إدارة اقتصادية تنافس الادارة الخاصة على حسابات الجدوى والمصلحة، على قول روزيه بيروز، رئيس شركة «توركواز بارتنرز للاستثمار والاستشارات». وإذا أخرج روحاني الشركات الحكومية الأخرى من قبضة وزاراته، كانت مساهمته في الترشيد الاقتصادي كبيرة. ولكن معظم العقود التي وقعها الرئيس الايراني في زيارته الفرنسية كان توقيعه بالنيابة عن شركات القطاع العام. * مندوب خاص، عن «لوموند» الفرنسية، 22/4/2016، إعداد منال نحاس
مشاركة :