ليس سرا أن التجارة العالمية تزدهر بفضل الفوائض الناتجة عن إنتاج البلدان بما يتجاوز الطلب المحلي. ومع ذلك، فقد تم ترويج مصطلح "القدرة الإنتاجية المفرطة" مؤخرا كبديل سلبي لـ"الفائض"، بهدف تعزيز روايات الخوف التي تروجها بعض الأوساط الغربية تجاه قوة التصنيع في الصين. استخدمت هذه السردية لتبرير العديد من الإجراءات الحمائية، مثل الزيادات الأخيرة في التعريفات الجمركية الأمريكية على بعض الواردات الصينية، ودعوة جانيت يلين لمجموعة الدول السبع لمواجهة الصادرات الصينية، ودفع المفوضية الأوروبية للتحقيق المتنازع عليه في مكافحة الدعم للسيارات الكهربائية الصينية. إن هذه السردية التي تصور قدرة التصنيع الصينية كتهديد عالمي، هي صيغة أخرى لخطاب "التهديد الصيني"، حيث تنبت بذوره السامة من حاضنة قلق الغرب، أو ربما خوفه بسبب صعود التصنيع في الصين. من ناحية أخرى، فإن صعود الصين من قاعدة تصنيع منخفضة التكلفة إلى أكبر قوة تصنيعية في العالم أثار قلق بعض الدول الغربية، التي ترى ذلك كتهديد لهيمنتها الصناعية. إن ردود الفعل الغربية على قدرة الصين التصنيعية بمثل هذا التخوف تنم عن نفاق وتجاهل للاقتصاد الأساسي. فلم تكن قدرة الصين الإنتاجية تمثل مشكلة في الوقت الذي استفادت فيه العديد من الشركات الغربية من قدرات الإنتاج منخفضة التكلفة في البلاد. كما لم تكن هناك مشكلة عندما تم التأكيد على التفوق الغربي من خلال اضطرار الصين لبيع مليار زوج من الجوارب لشراء طائرة بوينغ، ولا عندما ساعدت قدرات إنتاج قطع الغيار الصينية في دفع المبيعات العالمية للمنتجات ذات القيمة المضافة العالية مثل هواتف آيفون من إنتاج شركة آبل. لكن اليوم ينظر الكثيرون في الغرب إلى التصنيع الصيني بعين ناقدة، خاصة في قطاع السيارات الكهربائية حيث فقد الغرب هيمنته. لقد صدرت الصين نحو 12.5% من إنتاجها من السيارات الكهربائية العام الماضي. ومن الواضح أن اعتبار هذا الرقم "صدمة عرض" محتملة يعد مغالطة، ويثير تساؤلات قوية حول المعايير المزدوجة الغربية. وفقا لهذا المنطق، فإن الولايات المتحدة، التي تبيع نحو 80% من رقائقها في الخارج، وألمانيا، التي تصدر نحو 80% من سياراتها، ستسببان "زلزال عرض". في الواقع، يمثل قطاع السيارات الكهربائية في الصين فرصة يمكن للعالم، بما في ذلك الغرب، أن يستفيد منها بشكل كبير، حيث يمكن أن يشكل دفعة هائلة لمكافحة تغير المناخ. ويعكس رد فعل الغرب يأس السياسيين الذين يسعون لتحويل انتباه الرأي العام إلى عدو خارجي وهمي، في محاولة لإخفاء عدم كفاءتهم في مواجهة التحديات المحلية المعقدة. يسعى هؤلاء السياسيون أيضا لتجنيد الحلفاء لتضليل العالم برواية منافقة، على أمل أن يسهل ذلك تبرير الحواجز الجمركية وغير الجمركية. وفي هذا السياق، يجب أن نتذكر درسا مؤلما من ثلاثينيات القرن الماضي، عندما سنت الولايات المتحدة قانون التعريفات الجمركية سموت-هاولي لحماية صناعاتها، مما أدى في النهاية إلى إشعال حرب تعريفات وجر الاقتصاد العالمي إلى ركود أعمق. وقد يعود هذا الشبح من الماضي ليطاردنا مرة أخرى إذا لم يكن هناك فحص جدي للواقع لنرى بوضوح ما الذي يعود بالنفع على العالم حقا، وخاصة الغالبية العظمى من البلدان النامية. إن الصين ليست سوى واحدة من العديد من البلدان النامية التي تسعى لتحقيق التحديث والترقية التكنولوجية. وفي الوقت الذي لا تزال فيه بعض البلدان النامية في مراحلها الأولى من التنمية الصناعية، فإن المنتجات والتكنولوجيا الصينية ليست تهديدات، بل محفزات حيوية لترقية استهلاكها وانطلاقها الصناعي. فلا يوجد سبب يدعو الغرب إلى نشر قلقه في هذه البلدان، ولا إلى الضغط عليها لحملها على اتخاذ مواقف معينة من خلال الإكراه الدبلوماسي والاقتصادي. لا تأتي الروابط الوثيقة من سياسة الجزرة والعصا، بل تتدفق من التجارة المتساوية المدفوعة بالطلب في السوق والمزايا النسبية. فمن خلال تصدير أكبر حصة من السلع الوسيطة على مدى 12 عاما متتالية، مثل خلايا إنتاج بطاريات الليثيوم وشرائح النحاس المستخدمة في الألواح الكهروضوئية، أصبحت قدرة الصين الإنتاجية متكاملة بشكل وثيق مع بقية العالم، مما أعطى دفعة قوية للتصنيع في جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، وخاصة الدول المشاركة في مبادرة "الحزام والطريق". لقد تجاهل أولئك الذين تم توجيههم لشيطنة قطاع التصنيع في الصين وتضخيم سرديات المواجهة التجارية الحقيقة الجوهرية، المتمثلة في أن قدرة التصنيع في الصين أصبحت أساسا للأسواق العالمية، مع إضافة الوظائف وتسريع نقل التكنولوجيا بفضل تنمية الصين. قد يكون هناك افتراض آخر لمروجي الخوف الغربيين، وهو أنه من خلال التلاعب بالرأي العام العالمي، يمكنهم إجبار الصين على تغيير مسارها التنموي، أو على الأقل إعاقة نموها القوي في الابتكار والاقتصاد. ومع ذلك، فإن للصين الحق الكامل في السعي لتحقيق التقدم الصناعي، وهو في الواقع استراتيجية أساسية للبلاد في سعيها إلى التحديث من خلال التنمية عالية الجودة. وعلاوة على ذلك، فإن تنمية الصين تستند دائما إلى السعي إلى تحقيق ما يعود بالنفع على العالم بأسره. وبعد بذل جهود مستمرة لتعزيز الإنتاج الأخضر من خلال المنافسة المفتوحة والتخطيط الصناعي طويل الأمد، أصبحت الصين رائدة في تطوير تقنيات إزالة الكربون والتقنيات الخضراء، متجاوزة بذلك غالبية العالم. ونظرا لأن العرض العالمي من منتجات الطاقة الجديدة يقل كثيرا عن الطلب العالمي اللازم لتلبية أهداف الاستجابة للتغير المناخي، فلا ينبغي أن نتوقع من الصين أن تعطل بشكل غير مسؤول محرك التحول الأخضر الخاص بها لمجرد استرضاء بعض المنتقدين الغربيين. ومن المفارقات المثيرة للاهتمام، أن الغرب في واقع الأمر ينسخ بعض استراتيجيات التنمية والسياسات الصناعية الصينية، كما يتضح في قانون خفض التضخم في الولايات المتحدة وقانون الرقائق الأوروبي، وإن كان لا يزال من غير الواضح مدى فعالية هذه السياسات بمجرد أن تطبق. إن السمة المميزة للسياسات الصناعية المتطورة في الصين هي انفتاحها وممارستها لعدم التمييز. ومع ذلك، يواصل بعض الساسة الغربيين ذوي الأهداف الجيوسياسية الضيقة الترويج لفكرة "فك الارتباط" و"إزالة المخاطر"، على الرغم من الأدلة الوافرة على عدم وجود أي مخاطر. وعندما تدخل نسخة 2024 من القائمة السلبية لوصول الاستثمار الأجنبي حيز التنفيذ في الأول من نوفمبر القادم، سوف يصبح قطاع التصنيع في الصين مفتوحا بالكامل أمام المستثمرين الأجانب. وقد تعني هذه الخطوة منافسة أشد شراسة. ولكن سياسة الحمائية، والتي أثبت التاريخ أنها مدمرة، لم تكن يوما خيارا متاحا للصين. وإذا أصر البعض في الغرب على استغلال المخاوف لتعزيز الثروات الصناعية والوطنية، فقد يجدون أنفسهم في نهاية المطاف على الجانب الخطأ من التاريخ. وتشير الدروس المستفادة من الماضي بوضوح إلى أن تشجيع المنافسة المفتوحة والعادلة هو الخيار الأكثر حكمة وواقعية.
مشاركة :