يقولون أن المسألة تم تسييسها. لكن الجماعات والتيارات دائماً تكون جاهزة لاستلاب الأحداث وتسييس الأزمات. ويتعجبون أن الصحافيين منقسمون على أنفسهم، لكن الصحافيين أنفسهم يعلمون علم اليقين إن السنوات الخمس الماضية نضحت بفروق وتفجرت بانقسامات ما أنزل الله بها من سلطان. ويطرحون الأسئلة، بعضها استفساري، حول قانونية الاقتحام والبعض الآخر استنكاري حول جدلية الانتقام، لكن السائل دائماً لديه الإجابة المسبقة بناء على قناعات مقولبة وأيديولوجيات بعضها راسخ والبعض الآخر مكتسب جراء خمس سنوات مضت من التسييس والتسييس المعاكس وأيضاً التنفيس والتنفيس المعاكس. وعكس المتوقع في مثل هذه الحالات التي يبالغ الأمن في تنفيذ إجراءاته، أو تكون هناك شبهة استعراض قوى، حيث يتضامن المواطنون مع المفعول به، فإن الشعور العام في الشارع المصري يميل إلى التضامن مع الفاعل، وإن كان تضامناً متفاوت الأسباب متناقض العوامل مختلف التوجهات. فما أن انهالت تغريدات نشطاء الصحافيين وتفجرت تدويناتهم العنكبوتية واصفين الداخلية بـ «البلطجية» وداعين إلى أقصى أنواع التصعيد وأعلى درجات التعضيد من قبل كل معارض للنظام كاره للتقييد ناقم على الشرطة، حتى وجد قطاع عريض من المصريين أنفسهم واقفين على المنصة المقابلة. «قابلت صحافيين كثيرين على مدار السنوات الخمس الماضية، وأتابع بعضهم ممن تحول من العالم الورقي إلى شاشات الفضائيات، وأقرأ ما يكتب في المواقع والصحف، ولا أبالغ حين أقول أن المنصة الصحافية أقرب ما تكون إلى السيرك». كلمات الرجل الستيني صاحب المكتبة العتيقة الصغيرة في أحد الشوارع الفرعية في وسط القاهرة جاءت من القلب وعكست جانباً تأبى الجماعة الصحافية أن تنظر لها، وإن نظرت تتجاهلها أو تنكر وجودها أو تقنع نفسها إنها صادرة عن مغيبين أو جهلاء أو «أمنجية» أو عبيد. لكن واقع حال الأزمة يشير إلى أن الجماعة الصحافية الغاضبة تتمتع بصوت عال، حيث تتردد أصداؤه على بعض الشاشات وصفحات الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي من «فايسبوك» وتويتر وغيرهما، وذلك على عكس الأصداء الغاضبة التي تقتصر على أحاديث المواطنين في وسائل المواصلات وعلى المقاهي وأماكن العمل حيث لا صوت يعلو على صوت أزمة النقابة هذه الأيام. شلة الرجال المتقاعدين المجتمعين في أحد النوادي الراقية بين لواء سابق ومستشار سابق ومحام سابق ووكيل وزارة سابق وموظف كبير سابق ورجل أعمال سابق تفكهوا كثيراً حول «شلة الشيوعيين والاشتراكيين الثوريين وبتوع 6 أبريل ومعهم حفنة من الإخوان المتخفين الباسطين هيمنتهم على النقابة». وتحدثت مجموعة السيدات المقابلة لهم عن «مجموعة الفاشلين» التي تظهر في المصائب وتقفز في الكوارث، ذاكرين أسماء مرشحي رئاسة خاسرين، ورجال سياسة خافتين، ورموز إعلام مغضوب عليهم. وعلى مواقف الباصات وعربات المترو نبرة أخرى من الاستياء الشعبي. إنها محملة بالحنق ويلفها ضيق الصدر وقوامها الكيل الذي فاض ولم يعد في مقدوره تحمل المزيد. فمن توحش للدولار وتقزم للجــنيه وتغول الأسعار وتفاقم الأزمة الاقتصادية التي تلقي بظلالها على الجميع في ظل منطقة أبجدياتها الاشتعال والإرهاب، وجدت القاعدة العريضة من المصريين نفسها تنفس عن ضيقها برفض الموقف الثوري للصحافيين الرافض لما بدر من الأمن بدخول النقابة. همس أحدهم لصحافي شاب وقف في محيط النقابة وأخذ على عاتقه مهمة شرح أسباب التصعيد من قبلهم «اضمن لي دخلاً ثابتاً يكفيني وعيالي وخذ مني أحلى تضامن»، فيما علق آخر متسائلاً عن قيمة أجور الصحافيين المتحولين إلى الفضائيات والملايين التي يتقاضونها «ثم يصدعون رؤوسنا بالحديث عن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. ولدي اقتراح لهم: لماذا لا يبدأون بأنفسهم ويقسمون معنا ما يتقاضونه، وعلى الأقل يكون درساً عملياً في العدالة الاجتماعية». وقال ثالث ممسكاً بهاتفه المحمول وقد بحث عما كتبه أحد الصحافيين المقبوض عليهما من داخل النقابة وعرضه على الصحافي الشاب طالباً منه الرأي في ما كتب. كلمات الصحافي المتداولة بين كثيرين والتي يدعو فيها إلى قتل أي ضابط شرطة يؤذي مواطناً لأنه لا داعي لانتظار القانون وأن أحداً لن يحصل على حقه إلا بيده، وكذلك ضباط الجيش، وأيضاً الرئيس، ومذيلا ذلك بـ «وإنا لله وإنا إليه راجعون» رد عليها الصحافي الشاب مدافعاً أن هذه الكلمات جاءت على صفحة الصحافي الخاصة ولم تكن منشورة في صحيفة أو موقع ومن ثم، حقه أن يعبر عن رأيه. لكن واقع الحال يشير إلى أن الغالبية العظمى من الصحافيين الذين تضامنوا مع حق حماية نقابتهم من الاقتحام، وحق الصحافيين في عدم إلقاء القبض عليهما لم تتطرق إلى أسباب القبض عليهما، بل تركز الحديث والشعارات المرفوعة والمواقف الغاضبة المتخذة على مسائل تتعلق بـ «الصحافة مش جريمة» و»الداخلية بلطجية» و»صحافي وأفتخر» و»لا للموت البطيء» مع رسوم كاريكاتيرية يدور معظمها حول أقلام مكسورة وأياد مكللة وأدمغة منضغطة في دلالة على فرض القيود على الصحافيين. الصحافيون انفجروا غضباً في واقعة اقتحام النقابة لأنها كانت القشة التي قصمت ظهر البعير. الأحاديث الدائرة بينهم لا يدور جميعها حول واقعة الاقتحام، بقدر ما تدور حول شكاوى ومعاناة من وضع عام يشعرون فيه بتغول الأمن على الصحافة. حتى أولئك الذين لاموا على النقابة غضبتها وانتقدوا زملاءهم لـ»مبالغة» في التصعيد وتهويل في الشكوى والأنين فعلوا ذلك وكأنها فرصة للمجاهرة باعتراضات متراكمة على ما أصاب العمل الصحافي ومن فيه من عوار وفوضى وخروج على قواعد وآداب المهنة. والجماعات السياسية والحركات المعارضة سواء إسلامية حاكمة سابقاً أو ثورية مندثرة حالياً سارعت هي الأخرى في إصدار بيانات الشجب والتنديد بوزارة الداخلية والإعلان عن ميل إلى توحيد القوى الثورية في فرصة ذهبية للعودة مجدداً. والمواطنون العاديون الذين شنوا من جهتهم حملات تدعو إلى مقاطعة الصحف والصحافيين أنفسهم عبروا كذلك عن عدم رضا متصاعد على سطوة بعض الصحافيين وشعور البعض إنهم فوق القانون وقيام البعض بلعب دور «نصير الغلابة» أو «زعيم المساكين» على رغم ملايين يتقاضاها من هذا البرنامج أو مكاسب يحققها من تلك القناة. أزمة النقابة مع الأمن في واقعة الاقتحام قدمت الفرصة الذهبية للجميع للانفجار، لكن كل بحسب تراكماته القديمة، وهو ما أدى إلى انفجار الجميع في وجه الجميع. إنها الأزمة المولودة من رحم عشرات الأزمات.
مشاركة :