ما إن اقتحم الأمن نقابة الصحافيين، حتى تفجرت البيانات الغاضبة حيناً والمضللة حيناً والواقفة على طرفي نقيض دائماً تكشف وتعبر وتوضح وتبرر وتعلل وتظلل وتضلل ما يظل عصياً على الفهم ملتبس الحال. حال مربع نقابة الصحافيين في وسط القاهرة تحدث عن نفسه صباح أمس. ففي صبيحة ليلة هادرة أشعلت زعابيب الغضب وأثارت موجات الصخب وأعادت وجوهاً غابت وأيقظت أصواتاً خفتت وأعلت نيران تسييس ورماد استقطاب ونوبات تراشق بالاتهامات كما لم تفعل من قبل، استيقظت مصر من سبات ليلة شم النسيم على نسيم هادر غادر جائر كما قال بعضهم، هادئ ساكن ساكت كما قال آخرون. آخرون ممن مروا أمام سلالم النقابة حيث الأجواء المرتبكة والمشاعر المحتقنة والتوجسات المترقبة لم يلتفتوا أصلاً إلى ما تموج به أرجاء المبنى من زلازل غاضبة وبراكين حانقة. فقد كانت ليلة ليلاء دخلت فيها قوات الأمن مبنى نقابة الصحافيين في شارع عبدالخالق ثروت في وسط القاهرة حيث تم إلقاء القبض على الصحافيين عمرو بدر (مؤسس حركة «بداية» المعارضة) ومحمود السقا اللذين كانا معتصمين في داخل النقابة تضامناً مع أسر المحبوسين من الصحافيين و «احتجاجاً على اقتحام منزليهما ومخالفة القانون بإصدار قرارات بالضبط والإحضار بسبب آرائهما وما يقدمانه في موقع بوابة يناير على الإنترنت». لكنها أيضاً ليلاء، ليس فقط لما أدت إليه من فورات صحافية غاضبة ومطالبات إعلامية باستقالة وزير الداخلية وتصريحات من محسوبين على المقربين من الرئيس بأنه «لم يكن يعلم بما جرى»، بل أيضاً لأن الحمم البركانية الناجمة عن اقتحام الداخلية لمقر النقابة أعادت تهييج الزعابيب المتشاحنة والسجالات المتفجرة خلافاً واختلافاً، إن لم يكن على الناشطين والحقوقيين، فعلى توفيق عكاشة ومرتضى منصور، أو فلنقل تيران وصنافير، وإن لم يكن هذا أو ذاك أو تلك وهذه، فعلى اقتحام الأمن للنقابة وإلقاء القبض على صحافيين. وعلى رغم الموقف العام شبه الموحد لجموع الصحافيين برفض ما جرى من قبل وزارة الداخلية، إلا أن درجات الرفض تراوحت ومراحل الغضب تفاوتت بين الغضب الناري المحموم وذلك الثلجي غير المأزوم. جموع من الصحافيين رأت في ما جرى خرقاً لكل الأعراف وانتهاكاً لجميع الأصول. جموع أخرى اعتبرت ما جرى إساءة إلى النظام قبل أن يكون إساءة إلى الصحافيين، وإن تركت أبواب الشك مفتوحة، إذ ربما يكون القانون سامحاً للأمن بالدخول وما اقترفه الصحافيان جديراً بالاعتقال. جموع ثالثة اعتبرت ما جرى فرصة لإسقاط ما يمكن إسقاطه والدق على ما يمكن الدق عليه من أوتار «الدولة القمعية» و «الأحكام الفاشية» و «الإجراءات القسرية». وعلى هامش الحدث نفسه، بزغت أحداث أخرى باتت تلفت الانتباه إلى الهوامش أكثر من النص نفسه. فقد عاودت شخصيات توارت في جنبات العوالم الافتراضية وانحسرت عنها أضواء البرامج الفضائية وانصرفت عنها الاهتمامات الشعبية الظهور، فغرد الدكتور باسم يوسف مستنكراً، وكتب الدكتور علاء الأسواني شاجباً، وجلس الزميل خالد داود على السلالم غاضباً، وانتظر كثيرون ما سيصدر عن الدكتور محمد البرادعي. وهلم جرا. وجرى العرف كلما زلزل الأجواء المصرية حدث كهذا أن ينقسم المتابعون كل وفق توجهاته وأيديولوجياته وتخوفاته وتوجساته. فالرافض للرئيس عبدالفتاح السيسي سواء لأسباب ثورية أو حقوقية أو «إخوانية» ينضم إلى زمرة المنددين الشاجبين المطالبين بإسقاط النظام. والرافض للفئات الثلاث السابق ذكرها ينضم إلى زمرة المنددين بالثورة والحقوق و «الإخوان». والواقفون في المنطقة المنزوعة التوجهات ويشكلون الغالبية يمرون أمام النقابة بسلالمها وجدرانها المختبئة أسفل طبقات ثورية متفاوتة من الغرافيتي وأبوابها التي تحوي طرفي نقيض، فإما يصبون غضبهم عليها، أو ينظرون إليها بمزيج من الشفقة والعجب، أو يسألون: «إلا مين العيال اللي قبضوا عليهم أمس؟». وبين أمس قريب لم تكن الغالبية المطلقة تعرف فيه اسمي بدر والسقا من قريب أو بعيد، وحاضر آني ما زالت الغالبية لا تعرفهما (بمن في ذلك قطاع عريض من الصحافيين أنفسهم)، تعالت صيحات غاضبة لكن من نوع آخر. فهي لا تطالب بتدخل الرئيس السيسي، أو إقالة وزير الداخلية، أو اعتصام مفتوح في النقابة، أو حتى احتجاج مسموح على السلالم، بل باحتجاب طويل للصحف وتسويد عميق للشاشات. بعضهم يقول إن هذا من باب الاحتجاج، لكن آخرين يلوحون بالبحث عن راحة البال وصفاء الحال الذي يعكره هؤلاء وأولئك. وتأبى روح الدعابة أن تنقشع وفطرة التنكيت أن تندثر، فيعارض أحدهم الاحتجاب لأن ذلك من شأنه أن يسقط البلاد ويشتت العباد، إذ «كيف لنا أن نلف ما تبقى من الفسيخ بينما ورق الصحف شحيح؟».
مشاركة :