صورة الثرثرة عند عبير نعيم في “ثرثرة لا يسمعها العالم”

  • 11/5/2024
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

حسن الحضري تُعَد الكاتبة الروائية المصرية “عبير نعيم” من الذين يفضلون الانطلاق إلى عوالم أكثر خيالًا في أعمالهم، ويبدو ذلك من خلال مجموعة قصصية لها بعنوان “الخروج إلى قبو الميتافيزيقا” تناولت فيها أفكارًا مُغرقة في الخيال، استطاعت من خلالها أن تقدِّم رؤيةً نقدية قوية لبعض الظواهر الاجتماعية التي يعيشها العالم المعاصر، ثم جاءت هذه الرواية الجديدة للكاتبة بعنوان “ثرثرة لا يسمعها العالم” لتؤكد على مسارها في هذا الاتجاه الفلسفي والنقدي والخيالي. وقد أكدت الكاتبة على تعمُّقها في هذا الاتجاه؛ من خلال العنوان كعتبةٍ أولى لتحليل النص، ثم في كلمات الإهداء؛ التي تقول فيها: «إلى روح أمى الحائرة التى تتألم أني ما زلت حية؛ دعينى أُحْدِث جلبة أو مزيدًا من الثرثرة فى هذا العالم، كفاك أنك متِّ بداء الصمت»؛ فمن يطالع المجموعة القصصية “الخروج إلى قبو الميتافيزيقا” للكاتبة؛ يجد أن كلمات الإهداء هنا في هذه الرواية تُعَد امتدادًا لمضمون تلك المجموعة على الجانب الفكري. وعَوْدًا إلى الرواية؛ نجد أحداثها من البداية تتواءم مع العنوان بشكلٍ واضحٍ؛ فالسَّجين رسلان؛ الذي تبدأ أحداث الرواية بحبسه عشر سنوات؛ يدخل زنزانته في الليلة الأولى فيجد فيها -كما تذكر عبير نعيم- سجينًا أقدم منه، وتبدأ المشاحنات ومحاولات فرض السيطرة مِن قِبَل زميله السَّجين القديم، ثم يتبادلان حواراتٍ وُدِّيَّةً بعد أن يتعارفا، وتمضي بهما الأيام بين صفاء وكدرٍ، حتى تقع بينهما مشاجرة كبيرة، فيكاد رسلان أن يقتل صاحبه، فيأتي أحد الحراس.. «وقال لي: ما كل هذه الضجة في الزنزانة؟!؛ توسلت إليه أن ينقذ السجين المحبوس معي، فنظر إليَّ بدهشة وأخذ يبحث في كل أرجاء الحجرة، وقال: أي سجين؟! أسرعت وأشرت إليه، لكني لم أجده!! قلت له: كان هنا وكنت سأقتله؛ نظر إليَّ الحارس نظرة شفقة ومدَّ يده إلى فمي ليجفف قطرات الدماء، وقال: يبدو أنك ارتطمت بالجدار؛ فكل السجناء في الشهور الأولى هكذا حتى يعتادوا على السجن»؛ فهذه الضجة الكبيرة والثرثرة التي عاشها رسلان وظن أن له صاحبًا يشاركه أحداثها؛ تَفْجَؤه حقيقتها بأنها ثرثرة فردية؛ ثرثرة لا يسمعها العالم. وتركز عبير نعيم في أعمالها -ومنها هذه الرواية- على تناوُل الظلم الاجتماعي؛ الذي نقتضب منه هنا قولها على لسان رسلان: «لسعة الصقيع تذكِّرني أن الشتاء جاء خصِّيصًا لأمثالنا الفقراء فقط؛ لنَهتزَّ من الصقيع كالورق في شهر أيلول، ثم نسقط صرعى على ممرات الشوارع فتدوسنا أقدام الربيع». وكذلك قولها على لسانه وهو ينظر إلى رِجلَي ابنته المتَّسختين، حين ذهبت مع أمها لزيارته في سجنه: «كم كان منظر الاتِّساخ يشبه خطايا البشر على الأرض، ولكنها كانت خطايا غير عادلة؛ لأنها تَعْلَق دائمًا بالأرجل الواهنة!!»؛ وهذه الأحزان التي يقاسيها رسلان؛ أوجدت تساؤلاتٍ كثيرة في داخله، عبَّر عنها بقوله «تزاحمت كل هذه الثرثرة داخلي، حتى سمعت صوت الحارس يقول: الزيارة انتهت»، فنحن نجد أن الفكر النقدي الفلسفي للظواهر الاجتماعية المعاصرة التي تتناولها عبير نعيم؛ يأتي في سياق متَّسق من حيث طريقة التعبير والإشارة والتدليل بأمثلة عفوية مناسبة للأحداث ولِطبيعة الشخصيات، وانطلاقًا من إصرار الكاتبة على هذه الثرثرة “الذاتية” التي لا يسمعها أحد؛ نجد السجين رسلان يقع في أحداثٍ وهميَّةٍ مرة أخرى، وهذه المرة يلعب الشطرنج مع رفيقٍ خياليٍّ داخل غرفته الجديدة التي انتقل إليها ليكمل حبسه فيها وفقًا لطلبه، وبعد أن يفوز في هذه اللعبة الخيالية يفيق على كلام الحارس «أيُّ ملكٍ وأيُّ شطرنج؟! لا يوجد في الحجرة هنا سجين غيرك»؛ فكل تلك الأحداث التي عاشها مع لعبة الشطرنج والوزير والملك.. ما هي إلا أحداث وهمية وصورة من صور الثرثرة الداخلية التي لا يسمعها أحد. ولا تنسى الكاتبة أن تعرِّج على الحكمة والموعظة والرضا بالواقع؛ فهذا هو رسلان -وهو يعيش أحداثًا وهميةً جديدة- يقول حين يعرف معاناة الخادمة “آيار” التي تخدم في المنزل الذي يتولى حراسته: «جلست وحدي تحت المظلة بذهنٍ مشتَّت، كنت أظن أني وحدي الذي يعاني في هذا العالم الواسع؛ لكني وجدت معاناة أخرى بصورٍ أخرى تحقِّر وتصغِّر من معاناتي، فلماذا أذهب إلى منزلي كل يوم بوجه عابسٍ، ولماذا يعتصر قلبي أنَّ طفلتي أكلت من علبة طعام الكلاب، ولماذا أنظر إلى عربة اللُّعَب وأنا حزين، ولماذا أتضرر من رائحة الرطوبة في منزلي، ولماذا لا أبتسم وأنا مستيقظ؟!!»، ثم تعود الكاتبة سريعًا إلى السخرية الممزوجة بالتحدي، فتقول على لسان رسلان: «فمِن الآن سأضحك عندما أمرُّ بعربة اللُّعَب وأقول: لا يهم أن طفلتي لن تشتري لعبة؛ فالحياة أكبر لعبة». ونلاحظ أن عبير نعيم تربط بين أفكارها بدقةٍ، وإن فصلت أحيانًا بين أجزاء الفكرة الواحدة بأفكارٍ أخرى؛ فقد قالت على لسان رسلان: «فالحياة أكبر لعبة»، ثم عادت بعد عدة أحداث وتقلُّباتٍ لتقول أيضًا على لسانه وهو يمشي في الشوارع محزنًا لعدم تمكُّنه من الحصول على تكلفة علاج ابنته: «أنظر إلى الوجوه داخل السيارات الفارهة، وأنظر إلى الوجوه التي تركب عربات تجرُّها الأحصنة، ووجوه آخرين يشحذون بين الطرقات، والفجوة تتَّسع بين وجوه هؤلاء وهؤلاء». واستمرارًا في رصد النفاق الاجتماعي باعتباره ظاهرة من أبشع ظواهر هذا العصر؛ تقول عبير نعيم على لسان زوجة رسلان: «تذكرت عندما ذهبت إلى السيد “تموز” أول مرة أطلب مساعدته حتى يخرج زوجي من السجن، وطردني، وركل طفلتي الصغيرة برجله، كنت أنظر إلى صورته فى شاشات التلفاز بالشوارع التي أمرُّ بها، وجميع الجالسين على المقهى يصفقون له على برِّه بالفقراء!!». ولعل الكاتبة لجأت إلى طريقة “الثرثرة والتَّوهُّم” حتى تستطيع من خلالها أن تتناول بالنقد أكبر قدرٍ من الظواهر المُشِينة التي تعالجها في أحداث الرواية، فما زال رسلان السجين غارقًا في تخيلاته التي لا يراها سواه، وثرثرته التي لا يسمعها غيره، وهذه المرة يفيق على صوت الحارس أيضًا وهو يقول له: «اهدأ يا رسلان، سنعطيك حقنة منوِّم أخرى بعد أن وجدناك تمشي وأنت نائم داخل الزنزانة»؛ وجميع هذه الأحداث التي تصنعها الكاتبة في روايتها؛ تنتهي إلى الحقيقة التي تختم بها قصة رسلان؛ تلك الحقيقة المدونة على لافتةٍ داخل السجن: «من يجد أن العدل الحقيقي فى الخارج فليهرب»، ولذلك لم يهرب أحد؛ بل استسلموا جميعًا لواقعهم المرير؛ الذي يصنع لهم “ثرثرة لا يسمعها العالم”.

مشاركة :