كثيراً ما يذهب الظن إلى أن تعريب ابن المقفع لـ(حكايات كليلة ودمنة) هو الذي دفع العرب نحو التأليف في قصص الحيوان. والحقيقة أن حكايات كليلة ودمنة نفسها هي حصيلة تراكمات الحكي الخرافي والأسطوري والملحمي في هجرته من مواطن نشوئه الأولى في بلاد سومر إلى آداب الأمم القديمة كالإغريق والفراعنة والهنود والفرس ومن بعدهم إلى العرب، فأثَّر في شعرهم ونثرهم. ففي أدب ما قبل الإسلام كان الحيوان فاعلاً مركزياً في القصيدة مثلما هو فاعل في الحكاية الشعبية، وقد استقرت أعراف سرد الحيوان عند العرب من قبل أن يعرِّب ابن المقفع حكايات كليلة ودمنة بزمن بعيد، وبكل ما يعنيه توظيف الحيوان شعراً وسرداً من دلالات اجتماعية وميثولوجية وتعليمية ووعظية، فيها الحيوان ناطق يتكلم أو مسرود منطوق. ولم يصبح الحيوان في الأدب العربي رمزاً لتوصيل دلالات سياسية تتعلَّق بأساليب الحكم والقيادة إلا تأثراً بكليلة ودمنة. ولقد نفى أبو العلاء المعرّي ت 449 هـ أن يكون قصص الحيوان مخصوصاً بما عُرف في زمانه من حكايات، بل هذا السرد معروف في الشعر منذ زمن بعيد كما في قوله: (وهذا القصص قائم به الشاهد من الشعر الأول ولا ريب أنه يفعل إلى اليوم). ويعني بـ»القصص» ما تضمنته رسالته (الصاهل والشاحج) من حوارات سردية تجري بين حيوانين هما الفرس والبغل. وتنطوي رمزية الحيوان على هدف اجتماعي وهو السخرية مما في عالم البشر من ظواهر وممارسات سلبية وغير أخلاقية. ويُكثر المعرّي من تكرار ضمير المخاطب مما يقتضيه مقام السجال والاحتجاج من قبيل قوله:(وذكرتَ إنه كان/ وقولكَ إنه/ وزعمتَ انه كان / وادعاؤكَ انه/ وأما قولكَ/ وكيف خصصتَ بذلك/ أتظنُ ../ هل تدري ..) كما يُكثر المعرّي من توظيف السجع. وتبدأ الرسالة بالحكاء وهو يُذكِّر -في حضرة الأمير- بالمحاورة الساخرة التي جرت بين الحصان والبغل (والذكرى تنفع المؤمنين فيجوز والله قدير أن ينطق الصاهل وهو تعالى منطق كل الحيوان فيقول: اطرقي يا ماعلة واطري فإنك ناعلة وانغلي في الشاكة فإن عليها برجدا) ثم يأتي السارد الذاتي (الحصان الصاهل) وهو يحتج لأصالة عرقه وأن لا نسب يجمع بينه وبين من هو هجين ( البغل الشاحج) ويفخر الحصان بأنه أولى الحيوانات بالعرب، وفيه ورد جيد الشعر وما قالته الفرسان السالفة من قصائد عصماء معتبرة. ويكشف الحصان عن معرفة دقيقة بأحوال البغال وهذا من متطلبات الجدل الناجع التي بها يكسب المجادل الرهان، قائلاً له: (زعمت أني خالك؟ أغرك أن جاهلاً من قومك كان يدعو أمك فرسا ليست لسانه من قبل ذلك أشعر خرسا.. فأما نحن معاشر الجبهة فترى بهوادينا الغمرات وتشهد على ظهورنا الغارات.. وبنو آدم كما علمت لا يحفظون الخلة ولا يراعون الخدمة.. أليس أعمامك وأبوك من أعظم دوابهم نفعا وأقلها شماسا). ثم يأتي دور البغل ليكون هو السارد الذاتي فيرد على مزاعم الحصان في أن لا قرابة بينهما، محتجاً بقوله تعالى {والخيل والبغال لتركبوها} ويناقش في مسائل لغوية ونقدية من قبيل التمييز بين الشعر والرجز. وأحياناً تتدخل حيوانات أخرى في الجدل مثل الجمل والثعلب. وعادة ما تكون مزاعم الحصان والبغل منطوية على السخرية والتهكم؛ فمثلاً سخر الحصان من البغل فقال: (قد علمت أن صوتك له نوعان: الحمحمة والشحيج وكلاهما لا مسلك له في الموزونات)، واستهزأ البغل فرد قائلاً: (وزعمت أنك رأيت جاموساً خرج من بيضة فعلى أي وجه أحمل كذبك؟ مثلي معك مثل الرجل مع عمر بن عبد العزيز ما قال له: ما تقول في رجل ظحى بضبي؟ فقال عمر: قل ضحى بظبي فقال إنها لغة فقال عمر: انقضى العتاب). ولا يتحدد تاريخ سرد الحيوان عند العرب بما تم تأليفه من كتب ورسائل حسب، بل يشمل أيضاً ما أُلّف من حكايات وسير شعبية هي جزء من الفلكلور وتعكس تلاحم نظام السرد العربي على المستويين الرسمي والشعبي، حيث التقاليد السردية قارة والأعراف الفنية هي نفسها وإن تفاوتت أساليب التعبير عنها. بمعنى أن الأديب العربي ما كان لينتج سرد الحيوان إلا بالاستناد إلى قاعدة واحدة هي اللا واقعية على اعتبار أن تقاليد هذا السرد كانت قد ابتكرت على المستوى الشعبي أول الأمر ثم توسعت وانتشرت وغدت عامة وطبقها الأدباء الكبار الذين اعتمدوا على الأدب الشعبي المتداول والمعروف في استلهام عطاءاتهم الأدبية كالجاحظ والتوحيدي فأضافوا وطوروا وابتكروا جديداً، أُضيف إلى الأدب الرسمي. واستمر سرد الحيوان في تطوره، فتوسعت القصة وغدت طويلة، وتراجع البعد الفلسفي فيها مقابل تصاعد البعد السردي، وازدادت فاعلية الحيوان ومركزيته داخلها على المستويين النصي/البنائي والدلالي /الرمزي فاتضحت الغاية التثقيفية التي هي الأخرى تقليد سردي، اتبعه شهاب الدين بن عربشاه ت 854 هـ في كتابه (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء) متأثراً بحكايات كليلة ودمنة وما فيها من حكم وقضايا تتعلَّق بالسياسة والحكم كالشورى والعدل وما ينبغي أن يكون عليه الملك من خصال. بيد أن ما افترق به عن حكايات كليلة ودمنة أن كل حكاية من حكاياته هي عبارة عن قصة طويلة. وعادة ما تبدأ بالحكاء وهو يدلل على مقاصده التي بسببها يضرب المثل بالحيوان كأن يقول: (إن من لا يشيد أركان أسلافه ولا يقوّي بنيان أشرافه يصيبه مثل ما أصاب الذئب مع الجدي المغني المصيب ...) أو يقول: (من ترك التأمل والافتكار أصابه ما أصاب ابن آوى مع الحمار فقال الملك افدنا أيها المختار ...). أما على المستوى البنائي فإن القصة تتبع تقاليد السرد العربي مع ملازمة أسلوب السجع الذي يضفي على القصة مسحة بلاغية لكن المبالغة فيها أحياناً تولِّد مللاً، يطرده السارد العليم بين الحين والآخر بما يورده من أشعار وأمثال. فقصة الذئب والجدي تبدأ بعرض الإطار العام للأحداث، حيث الذئب في حالة جوع فيخرج للصيد وينصب شباك الكيد، وفي هذه الأثناء يشاهد بعض الرعيان يسوقون قطيعين من الضأن وفيهما بعض الجديان وهنا يستبطن السارد دواخل الذئب وهو إزاء هذا المشهد (فهمَّ عليها لشدة الجوع بالهجوم ثم أدركه من خوف الراعي الوجوم لأنه كان متيقظاً وعلى ماشيته متحفظاً.. فتخلف جدي غبي غفل الراعي الذكي فأدركه الذئب النشيط واقتطعه بأمل بسيط وبشر نفسه بالظفر وطار واستبشر). وما وصف الجدي بالغباء والذئب بالذكاء سوى فذلكة أسلوبية ستحقق فيما بعد مفارقة فنية، إذ سيتضح أن الجدي هو المراوغ الذكي. ويعتمد السارد في تصعيد الحبكة على تكرار الظرف الزماني (لما). ويستمر على هذا المنوال من استبطان دواخل الجدي والذئب مع التمثيل بأشعار القدماء وبحسب ما يناسب مقام السرد وفيه لا يتوانى القاص من توظيف اللهجة المحكية. وعادةً ما يظهر الحكاء في نهاية القصة ليضع النقاط على الحروف ويكشف عن شفرة الترميز بالقول: (وإنما أوردت هذا النظير لمولانا الملك والوزير ليعلم أن العدول عن طرائق الأصول ليس إلا داعية الفضول ولا يساعده معقول ولا منقول وأموره ذميمة وعاقبته وخيمة.. ويُؤخذ من مفهوم هذه الحكم أن من لم يشابه أباه فقد ظلم.).
مشاركة :