من أهم ما يجب أن يتعرف عليه كل من يحاول توظيف التراث دراميا هو خلق صلة احترافية متقنة بالتراث فلا يكفي مثلا أن أطلع على كتاب "أساطيرنا الشعبية من قلب الجزيرة العربية" لأستاذنا الكبير "عبد الكريم الجهيمان" (ت2011م) رحمه الله لكي أدعي الإحاطة بتراث نجد الشعبي بل يجب أن أطلع على جميع كتب الأمثال الخاصة بمنطقة نجد التي دونها الجهيمان والشيخ العلامة محمد بن ناصر العبودي (ت2022م) وكل ما كتب عن الحياة الشعبية وجميع ما أنتج عن العمران والأزياء والثقافة في نجد مثلا كافة، ففي هذه الحالة نستطيع أن نقول إنك مستعد لممارسة الكتابة الدرامية عن منطقة نجد وهذ الكلام ينطبق على الكتابة دراميا عن منطقة الحجاز ومنطقة الشمال والمناطق الجنوبية مثل عسير وجيزان والمنطقة الشرقية وكل مكان من هذه الأماكن يتمتع بثراء ليس له نظير يحتاج إلى مستلهم يتمتع ببصيرة حادة تعالج هذا الثراء إبداعيا سواء كان مسرحا أو سينما أو دراما تلفزيونية أو فنا تشكيليا أو روائيا. جميع هذه الفنون تحتاج دائما إلى مواد أرشيفية يسعى إلى تجميعها المبدع حسب احتياجه للتعرف على الموضوع الإبداعي الذي يتناوله إبداعيا. لعل أفضل نموذج عندي في احترام المرجعية الإجرائية المؤسسة للعمل الإبداعي هو إمبرتو إيكو، بل يعتبر مرجعا ملهما في التحصيل المبكر لأي عمل إبداعي فإيكو يتحدث دائما عن أرشيفه الذي استعان به في كتابة رواية اسم الوردة وغيرها، وحقيقة أن أرشيف إيكو هو الذي قاد إيكو لرواية اسم الوردة فالمعلومة الأرشيفية سبقت الحالة الروائية وهو ما أراد إيكو أن يصل له ليقول لنا إنه لولا الأرشيف الخاص بي لما ولدت رواية اسم الوردة بهذا الشكل.. ومثل هذه الموهبة والجدية والمثابرة هي التي تولد الأعمال الإبداعية المتميزة وحقيقة أنا لا أتصور أن أي كاتب من الممكن أن يكتب من غير معايشة أرشيف يغطي جميع متطلبات الأحداث فالأرشيف عادة يجيب عن أسئلة مطروحة عليه ويعيد طرح أسئلة جديدة هكذا يتم التفاعل بين الرسالة ومن أرسلت إليه أو بين الإرسال والتلقي وهذا الكلام ينطبق بحذافيره على كل من يمارس الإبداع ولنأخذ كمثال على ذلك كتابة الرواية سنلاحظ أن الكثير من الروائيين يهتمون غالبا باللغة على حساب الحبكة الروائية أو يقعون في مشكلة تسطيح السردية الروائية أو الحدث الروائي والسبب في ذلك يكمن في التهاون في إيجاد المرجعية الأرشيفية المناسبة كما حدث مثلا في مسلسل (الحشاشين) "عرض في رمضان2024م". فهذا المسلسل يعالج واقعة تاريخية تعتبر من الأحداث المهمة والثرية في وقائعها ولأن الكاتب محدود الثقافة ومحدود الموهبة فقد أتى في هذا المسلسل بالطوام التاريخية التي تدل على سطحية التناول الدرامي وتلفيق الوقائع التاريخية. إن عدم الجدية الإجرائية في تناول أي واقعة دراميا يجعلها تنزلق غالبا في الفشل والإخفاق والضعف وإلا فموضوع بهذه الأهمية التاريخية ألا يستحق لجنة لكتابة القصة والسيناريو والحوار علما أن التاريخ الإسماعيلي النزاري ثري جدا سواء في فارس أو في الشام ونزارية الشام هم من كان لهم قنوات اتصال بالصليبيين وواقعة الانتحار وقعت في قلعة "سلمية" في الشام لا كما لفق كاتب العمل الذي جعلها في قلعة "آلموت" في فارس ولك أن تتصور إرسال ثلاثة فرسان على خيول بملابس الحرب يسيرون من المناطق الصليبية ثم يجتازون العراق ثم يصلون إلى قلعة آلموت في فارس "إيران" وجميع هذه الأماكن إسلامية أي لا يمكن أن يتجول فيها صليبي بملابس تدل على أنه صليبي محارب إن من ارتكب هذا الخطأ دلل على أنه عديم الخيال والثقافة والفهم.
مشاركة :