ليس للإعلام مفهوم نهائي واحد نقف عنده، ولا تشمله نظرية واحدة قادرة على الإحاطة به، فالإعلام فضاء مفتوح تدور في آفاقه مجرّات الحياة، بمعنى أن الاقتصاد أو الرياضة أو السياسة أو الفن أو الجنس أو غير ذلك، يعتبر كل منها «كوكب» له نظرياته ورموزه ومنشوراته وأدبياته.. وكل هذه التكتلات تعمل في محيط الإعلام وفضائه، ما يعني أن الإعلام هو المهد الكبير الذي تتخلّق فيه هذه الكواكب أو تكبر على أرضه، ولعل هذا هو السبب الأول الذي يجعل الإعلام بهذه الحساسية والأهمية، أما السبب الثاني فهو أن الإعلام عامل رئيس نافذ وأكثر أثرًا في إنتاج الفرد والمجتمع، ما يجعله محطّ اهتمام صانعي القرار والمتحكّمين في حراك المجتمعات وبؤر التأثير. والإعلام عالَم يتّصل بكل العلوم، وتربطه خيوط ذهبية بمكوّنات المعرفة، فيتكيء عليها ويوظّفها، أو تفيد منه وتستغلّه. وربما يسعى الإعلام إلى تحقيق واحدة من الأهداف الثلاثة التالية: أن يؤكد على أمرٍ ما، أو يشكّك فيه، أو يسعى إلى إلغائه ونْفيه. والإعلام يختلف عن الدعاية، من حيث اعتماده على الحقيقة والإحصاء والوثيقة والمعطيات الحقيقية الملموسة، أما الدعاية فتقوم على الوَهْم والتزوير والتلفيق والكذب وقلْب الحقائق، وربما تصبح الدعاية إعلامًا إذا اعتمدت نظريات الخطاب، والسياسة، وعلوم النّفس والاجتماع والتربية. والإعلام ليس وسائل الاتصال ومنابر الإعلان والصحافة والإخبار فحسب، وإنما هو كل ما يحقق إيصال أمرٍ ما لمجموعة تتلقّى هذا المضمون، بمعنى أن المناهج المدرسية والمساقات الجامعية هي إعلام بشكل أو بآخر، جنبًا إلى جنب الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية، حتى أنني أعتبر الخُطبة أو قصيدة الشِعر أو الدراما والمسرح والسينما وباقي الفنون، أو البيان، أو الأغنية، أو الخطاب الصادر عن أيّ جهة، هو إعلام بامتياز. وعلى الرغم من المناداة بأن يكون الإعلام موضوعيًّا وحياديًّا ونزيهًا، إلاّ أنه من شبه المستحيل إيجاد إعلام يتمتع بكل هذه الصفات أو حتى بواحدة منها، وبصورة تامّة، إذ تنسرب الأهواء والأغراض والمصالح، فتكون خلف الإعلام أو في تضاعيفه، معتمدة على نظرية الإنتقاء أو التعمية أو الحذف أو البتر أو القلب أو الإيحاء، مستعينةً بعوامل إضافية كالصورة والإبهار أو اللون أو اللغة الجسدية أو النُطق أو الإظهار أو الإخفاء أو الارتكاس أو التذكير. وقلّما نجد إعلامًا حُرًّا تمامًا لا تشوبه تأثيرات التمويل أو الموقع أو الرغبة أو الإنتماء. والإعلام يصبح ذا تأثير بالغٍ كُلّما كانت حمولته المعرفية ثقيلة وحقيقيّة، وممتلئة بإدراك فقه الواقع. أما شعبنا الفلسطيني فإنه يحتاج أكثر من غيره إلى إعلام قويٍ مهنيّ عصريّ متنوع وقادرٍ على الإبهار والوصول إلى القريب والبعيد، لأنه يواجه آلة إعلامية احتلالية هائلة الإمكانات، وتستند على قدرات عالمة ومدعومة، وعلى أذرع صحفية وسينمائية وترجمات ومنابر ومطبوعات وعلاقات، في كل أرجاء الدنيا. ولأن إعلامنا الفلسطيني يواجه، أيضًا، طوفانًا أسود يهدر، وقد وصل إلى البيوت الفلسطينية، ويحمل هذا الطوفان الإعلامي، عبر الفضائيات ووسائل التواصل الجديدة، ما يستدعي خلق مناعة فلسطينية لا تتأثر بتلك المنتوجات والخطابات والمطابخ، كما يتطلب أن يعمل إعلامنا على توفير الحصانة لمدارك أطفالنا وشعبنا، وهم يتعرّضون لحملات إعلامية، تحاول أن تغرّبهم عن جذورهم، وتفرّغهم من محتواهم الوطني والسياسي والثقافي، وتخلق حالة من العدميّة فيهم، وتصبّ ثقافة جديدة هي ثقافة المسخ والاستهلاك والاستشراق والشذوذ والعُري والتطبيع. والإعلام يشبه المكان والواقع والزمن الذي يصدر عنه، أي أن إعلامنا يشبهنا، فإن كُنّا أقوياء فإعلامنا كذلك، وإن كُنّا مهزومين فهو مهزوم مثلنا، وحيث تصل قوّتنا العسكرية أو المعنوية أو الإقتصادية يصل إعلامنا وخطابنا. والإعلام في فلسطين (الأرض المحتلة 67) مرّ في غير مرحلة وحالة، نصل معها إلى العام 1994، وهو تاريخ تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية على جزء يسير من ترابنا الوطني، حيث تمت تسمية وزارة الإعلام كواحدة من وزارات السلطة، دون الالتفات إلى عدة أمور منها: التباس دور الإعلام الفلسطيني وتوزّعه بين اقتراح أن يكون مُشرفًا أو منُتجًا أو موجّهًا، ما جعله دورًا غائمًا دون ملامح. وأن وزارة الإعلام لم تشمل في بنُيتها هيئة الإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء «وفا» وهيئة الاستعلامات، ما أسّس لجُزرٍ إعلامية هي أقرب إلى المنابر المتعاكسة، أحياناً، دون أي رابط أو تنسيق بينها. وإن معظم الكادر الذي تمّ توظيفه للعمل في المؤسسة الإعلامية الرسمية لم يكن مؤهّلاً علميًّا أو صحفيًّا، بل تم استيعابه لأغراض وطنيه أو حزبية أو شخصية. وغابت الموازنات المناسبة مع غياب الرؤية الشمولية للعمل الإعلامي. ودخل المموّلون الغربيون إلى عالم الإعلام، وتم ضخّ الملايين لخلق إعلام رخو حيادي مُستَلب بعيد عن القضايا الحيوية والعميقة لمأساة الشعب الفلسطيني بمسمياتها، ما خلق إعلامًا منافسًا خطيرًا وموازيًا ومنفلت الأيدي والتأثير. هذا الإعلام الخاص غير الحكومي عمل، معظمه، على قلب الأجندة الوطنية الفلسطينية، وعلى تعريض كل الثوابت والمقدسات الفلسطينية للرأي والرأي الآخر والنقاش، فأفقدها هالتها ورفعتها وقداستها. ولم تتوفّر القوانين المطلوبة لتنظيم العمل الإعلامي أو لتحديد شروط منح التراخيص، وخاصة قانون المرئي والمسموع وتقادم قانون المطبوعات والنشر، وعدم وجود قانون حقوق الملكية الفكرية أو حق الحصول على المعلومة، وسرّية المصدر. وعدم وجود مطبخ إعلامي واحد للسلطة، ما أنبت الكثير من الخطابات الإعلامية المتناقضة التي تتحدث بلسان السلطة أيضًا، ما يؤدي إلى تآكل الثقة بالإعلام الوطني. وعدم توفرّ وسائل الاتصال والتقنيّات الحديثة والأجهزة القادرة على الإختراق والنفاذ والتعميم، وعدم توظيفنا لهذه الوسائل الحديثة، عداك عن فشلنا الذريع في أن نفيد من الدبلوماسية الرسمية والشعبية، ولم نتمكّن من جعلها ممرّات نصل من خلالها إلى العالَم والمحيط.. وغَلبَة البُعد الشخصي أو الفصائلي في خطابنا الإعلامي، ما خلق أكثر من خطاب إعلامي فلسطيني متناقض؛ هذا للضفة، وذاك لغزة! وخصوصا بعد الانقسام والتجاذب المشبوه، ما أنتج خطابين، على الأقل، تحكمهما اللغة النهائية! بمعني أن كل خطاب يدّعي أنه الحق والآخر الباطل، وبصورة نهائية غير قابلة للنقاش أو الحوار. ولعل المعيق الأكبر والمثبّط الأساس، الذي يخلق مناخات الإحباط وصعوبة التنقّل وضآلة الإمكانيات وبقاء الأحوال على ما هي عليه وتراجعها، هو وجود الإحتلال، الذي يُلقي بظلاله الثقيلة السوداء على مُجمل حياتنا الفلسطينية، وما يقوم به هذا الإحتلال من إبادة مرعبة وقمع ودهم وملاحقة لشعبنا، وخاصة للعاملين في الصحافة والإعلام، واستهدافهم بكل الأذى والشطب، خوفًا من تعريته وفضح ممارساته، وطمعًا في قتل الحقيقة والحرية. بالإضافة إلى أن هامشًا ممجوجًا بات يتّسع في حياتنا الإعلامية أصاب بعضا من الصحفيين، من قبل بعض الأجهزة والمنقلبين على الديمقراطية. وقبل شهور قليلة؛ قامت الحكومة الفلسطينية بحلّ وزارة الإعلام، دون بديل، بل ظلّت الجُزر قائمة متباعدة! وما زلنا نهبًا لفيضان الفضائيات ووسائل التواصل المخيف، عداك عن أن المموّلين المشبوهين ما فتئوا ينسربون في عمق معظم المؤسسات الإعلامية الأهلية، وثمة مَن يوجّه وسائل التواصل الافتراضية بصورة معادية وخبيثة! فبقينا تحت مطارق الإعلام المعادي والخطير، يلعب بمصطلحاتنا ووعينا، حتى أنه نجح في أن يضع على ألسنتنا ما يريد، وفي عقولنا ما يجب التفكير به. إننا عراة بلا إعلام معاصر حقيقي، ودون قوانين ورؤية وتمويل وطني. ويكفي التبصّر بالصحافة المكتوبة الخائبة، مثلاً، والتي اقتصر دور معظمها على التهليل والتبرير الساذج القبليّ، فأصبحت أوراقا للعلاقات العامة والتسحيج والشللية والتكرار الممجوج، ما يذكّرني بقصيدة ابراهيم طوقان حول الصحافة الصفراء المنافقة والمتهاوية، فيما تحتاج المواقع الألكترونية إلى مراجعات حاسمة، وخاصة حول المصطلح، ونشر وجهات النظر باعتبارها أخبارًا، في اللحظة التي غابت المجلات، والصفحات الثقافية، والتحقيقات الشفّافة، إلى درجة محبطة. إن غياب الاستراتيجية والتقنين والاختصاص وصيانة الديمقراطية، هو ما يجرفنا نحو الإفلاس، ويجعل إعلامنا «شائعة» لا جذر ولا قوام ولا تأثير لها. ولهذا؛ لا بدّ من مجلس إعلامي فلسطينيّ يضم المؤسسات الرسمية والأهلية والنقابات والشخصيات المعنية من ذوي الخبرة والمراس والتخطيط، وإنجاز القوانين المطلوبة، على أرضية الحرية والمهنية والحداثة، وبدعم يليق بالأهداف الواعية لخطابها ومصطلحاتها ووجهتها، مع العمل الجاد للإفادة من الاستطالات الخارجية، من دبلوماسيين وجاليات، لحمل خطابنا وتعميمه. ـــــــــــــــــــ شاهد | البث المباشر لقناة الغد
مشاركة :