المعري بين مخطوطة ومستعرب

  • 5/16/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

خلال زيارته لمكتبة الأزهر القاهرية وجولاته بين مخطوطاتها في يناير/كانون الثاني من عام 1910، وقد اقتربت إقامته من نهايتها هناك، اكتشف المستعرب الروسي إغناطيوس كراتشكوفسكي (1883- 1951) مخطوطة نادرة لرسالة من رسائل أبي العلاء المعري (973-1057) عنوانها رسالة الملائكة، وقاده هذا الاكتشاف الذي حدث مصادفة إلى الانصراف طوال عشرين عاماً إلى تحقيق هذه المخطوطة وحل غوامضها. هذا المستعرب، الذي لم يكن يحبذ لقب المستشرق، الذي ألصقه به بعض العرب، وفضل تسمية المستعرب غنطوس الذي أطلقه عليه الفلسطينيون واللبنانيون، وجد صعوبة بالغة في انتزاع نفسه، بعيداً عن مخطوطات الأزهر، ومع ذلك، ولأن الفهارس المطبوعة، لم تكن سوى نسخ مكتوبة، بخط اليد، اضطر إلى الإسراع واختيار المخطوطات اعتباطاً معتمداً على العناوين التي يصادفها. رسالة الملائكة صادفها خلال الأيام الأخيرة من وجوده هناك، ولم يكن معنياً بها بشكل خاص، إلّا أن معرفته بأعمال هذا الشاعر الفيلسوف، حسب تعبيره، كانت وثيقة، وكان يجمع أي معلومات تتعلق به من دون هدف محدد. وجاءت معرفته والاهتمام به عن طريق أستاذه ف. ر. روزن (1849- 1909)، ذاك الذي أسره، كما يقول في آخر أيامه، ذكاءُ المعري المتشكك والمفرط في تشاؤمه، إضافة إلى تعمقه في العقل الإنساني، وقدرته على السخرية والإمساك بالمفارقات المضيئة. وحسب كلام كراتشكوفسكي، لم يكن يأمل في أن يجد شيئاً جديداً في هذه الرسالة يضيفه إلى ما يعرفه عن شخصية صاحبها، إلّا أن ما أثار حيرته هو ملاحظته أن هذه الرسالة نادراً ما وردت الإشارة إليها، ونادراً ما عُرفت نسخ أخرى منها. ووجد في الشيخ أحمد عمر المحمصاني (1873-1951)، أمين المكتبة البيروتي- القاهري، الذي جاءه بمخطوطة الرسالة، شريكاً في الحيرة. في ظاهر الأمر بدت الرسالة ذات أهمية قليلة بالنسبة لعمله في مجال تحقيق المخطوطات العربية ونشرها. بدت نسخة عادية من عمل ناسخ محترف من القرن التاسع عشر عن نسخة أصلية أخرى لا يبدو أنه فهمها بشكل كامل. إلّا أنه سرعان ما أدرك منذ السطور الأولى لماذا ظل هذا العمل شبه مجهول في الثقافة العربية. كتب، قائلاً لو كانت لدى العرب قائمة بالكتب الممنوعة لاحتلت هذه الرسالة رأس القائمة. لماذا؟ على هذا السؤال يجيب بالقول صحيح أنها تتناول ظاهرياً قضايا نحوية، مثل قضية تصريف وبناء أسماء الملائكة، وتستخدم شواهد من القرآن تارة، ومن أشعار الشعراء وإشارات كتاب معروفين وعدد كبير من التلميحات الأدبية تارة أخرى، إلّا أن هذه القضايا النحوية لم تكن إلّا ستاراَ أو علة خارجية. من حيث المحتوى كان مضمون الرسالة كله يزخر بالمفارقات التي لا يسهل فهم مرماها ما لم يكن القارئ ملماً بأسلوب المعري الأدبي، وأسلوبه المميز في بناء النص الذي يخفي عن العامة أفكاره الجريئة أو غير المألوفة. كانت الرسالة في الواقع، حسب ما رأى كراتشكوفسكي، رسالة تقليدية في النحو، إلّا أنها تخفي أفكار أبي العلاء الساخرة، وإلماحاته التي عمادها المفارقة، وهي التقانة ذاتها التي لجأ إليها في عمل آخر من أعماله المشهورة التي تحمل اسم رسالة الغفران، الرسالة التي نعرف أنه جعل فيها القضايا الشعرية وخلافات الأدباء وسيلة لقول شيء آخر، أبعد من ذلك بكثير. وقام كراتشكوفسكي، وهو على عجلة من أمره، بإصلاح أخطاء الناسخ، وبذل جهداً كبيراً لإعادة اكتشاف أهداف المؤلف في ثنايا نص شوهه النسخ، وبدأ يظهر فجأة تلميح هنا أو هناك، إلا أنه لم يكن يملك إلا أن يمرّ مروراً سريعاً على جملة هنا أو هناك، لأن الساعات المتبقية له في القاهرة كانت تنقضي بسرعة. وهكذا اكتفى بأخذ ملحوظات سريعة ومختصرة. وقال لأمين المكتبة، وهو يعيد إليه المخطوطة لآخر مرة قبل مغادرته: إن قرأت هذه المخطوطة ستعرف لماذا ظل هذا العمل شبه مجهول في الثقافة العربية. وفي صباح اليوم التالي، وقطاره على وشك المغادرة، فوجئ برؤية الشيخ المحمصاني، أمين المكتبة، يبحث عنه متقطع الأنفاس، ووقف على رصيف المحطة أمام دهشة المودعين، وصاح وهو يشير إلى كراتشكوفسكي في نافذة القطار: لم أنم طوال الليل.. الحق أنه أمر مدهش ألّا يُحرق أبوالعلاء مع رسالته. ولم يفهم المستعرب الروسي كل تلميحات المتشكك الكفيف، ولم يحل ألغازه وشواهده الأدبية، إلا بعد سنوات، وظل يلازمه اكتشافه هذا، وأسف أن أستاذه روزن لم يعش ليسمع بأمر هذه الرسالة الذي لم يشك أنه سيكون مصدر متعة لكليهما. فخلال هذه السنوات اللاحقة صادفته عدة أحداث كان لها دور كبير في تقرير مصير هذه المخطوطة والوصول بتحقيقها إلى ما يعد كمالاً في مجال من هذا النوع. وصلته من القاهرة نسخة المخطوطة كاملة من صحفي معروف آنذاك بناءً على طلبه، وأخبره هذا الصحفي مزهواً بأنه عثر على أفضل حبر وأفضل ورق، إلا النسخة من ناحية الخط استنسخها ناسخ جاهل على حد تعبيره، ولم تقدم له سوى القليل في تسهيل قراءة الفقرات الغامضة. وفي صيف عام 1914، اعتقد أنه على وشك إكمال التحقيق والتدقيق، فتفرغ لدراسة نسخة ثانية من رسالة الملائكة وجدها في مكتبة جامعة ليدن الهولندية، وكانت نسخة أكثر أهمية من نسخة جامعة الأزهر لأنها ترجع إلى القرن السادس عشر، وساعدته هذه على إزالة غموض عدد من الفقرات، وتصور أن ساعة توفير ونشر نسخة بعد تصحيح أخطاء النساخ أصبحت قريبة. إلا أن القدر، كما يقول، لم يرفق بأبي العلاء للمرة الثانية، فاندلعت الحرب العالمية الثانية، وغادر هولندا عائداً إلى روسيا تاركاً ما سجله من ملحوظات في مكتبة جامعة ليدن، ولم يحصل عليها إلا بعد عشر سنوات ظلت خلالها الرسالة محتفظة بجدتها في ذهنه، فعاد إلى تحقيق الرسالة بالاهتمام نفسه. وخلال هذه الفترة تعرف إلى معاون له أثناء محاولته إقامة علاقات علمية دولية، ذلك هو أحمد تيمور باشا (1871- 1930) المعجب إعجاباً شديداً بأبي العلاء، وصاحب أفضل مجموعة خاصة من المخطوطات في القاهرة. كان تيمور يضع ما لديه من مخطوطات في متناول الباحثين من أي جنسية كانوا. وحدث أن كان في مجموعته نسخة ثالثة من رسالة الملائكة، فنشأت بينه وبين المستعرب الروسي مراسلات نشطة بين القاهرة وليننغراد، تخللتها مناقشات حول تلميحات الرسالة وإشاراتها. عن هذه المراسلات يقول كراتشكوفسكي: كنت أفتح رسائله دائماً يرافقني شعور بالبهجة، لأن كانت تأتيني باكتشاف بعد اكتشاف، في غالب الأحيان، كأن يكون الوقوع على بيت شعر أو مثل يوفر تفسيراً لإلماحة محيرة. وأخيراً، وفي مكان منعزل في القوقاز على شاطئ البحر الأسود، استطاع المستعرب إتمام عمله وتحقيق نص صعب تعرض لتشويهات النُساخ طوال قرون، وطبعت رسالة أبي العلاء المعري في عام 1932، بعد مرور ما يقارب عشرين عاماً على تسلمه لحزمة من الأوراق ضمت النسخة الغامضة من يد أحد أمناء مكتبة الأزهر. وأبرز ردود الأفعال التي وصلته كانت من الكاتب الرحالة البارز أمين الريحاني (1876- 1940) الذي استعار أسلوب أبي العلاء في كتابة تثمين، أشاد فيه بجهود المستشرقين الذين أعادوا إحياء صروح الأدب العربي. ولم يكن كراتشكوفسكي يرغب بمكافأة أفضل من هذه، لأنه عرف، كما يقول، إن العمل الذي شغله طوال عشرين عاماً، وجد أخيراً مكانه الذي يستحقه في الحياة، وعالم الدراسة والبحث.

مشاركة :