جديد الأديبة غادة السمان امرأة على قوس قزح من منشورات غادة السمان في 252 صفحة من الحجم الكبير، نهاية عام 2015. لوحة الغلاف الأول للفنان العالمي مارك شاغال، وصورة الغلاف الأخير للفنان محمد خالد، وهذا الكتاب هو السادس لغادة في أدب الرحلات، وكان صدر لها: الجسد حقيبة سفر، غربة تحت الصفر، شهوة الأجنحة، القلب نورس وحيد، ورعشة الحرية. أكثر من أربعين كتاباً في الرواية والشعر والقصص والأعمال غير الكاملة والكتابات الأخرى قدمتها غادة على مسافة السنوات الماضية، منذ ستينات القرن الماضي، وهذه الكتابات أشرقت في مساكب الكون، أينعت فكراً وأدباً وشعراً وروايات، أرخت فيها مسيرة حياة ومجتمعات وتوجهات، وقائع وعادات، حكايات حب، ونبش ذاكرة مجتمعية لبيئات تستعصي على النسيان، ذكريات ومذكرات، وفي كل كتاباتها، عرّت أوراق الشجر، وقطفت من خزائن الكون كل الثقافات، لم تترك زاوية أو بلداً في العالم إلّا وقرعت بابه بلا استئذان. سائحة أدبية في مدن المطر والريح ومطارات البلدان المنسية في صقيع القارات وحرائقها، أبجديتها معجونة بالحرية وبغيم السماء، قزحها أقواس ضوء تشعل الحرائق وتطفئ سغب الكتابة على حواشي الجراح. إنها غادة السمان التي في جديدها، تطير بقارئها على جناح طائر نورس وتحط به في نيويورك وباريس ولندن وجنيف وبرشلونة وأمستردام، واشنطن وكولونيا وفلورنسا وموسكو. تبحر في مواكب الحضارات، وتوقظ عظماء النهضة من نومة التاريخ.. ووصفتها في كل رحلة حكاية، تكتبها مبدعة أطلق عليها حافظ محفوظ أديبة العرب الكبرى ووضعتها الجامعة الأمريكية في بيروت في لائحة خريجيها الكبار الذين احتفلت بهم أخيراً، وحفرت إنجازاتهم في سجلاتها الخالدة. هنا لقاء لالخليج مع غادة السمان.. نسألها: * أديبة العرب الكبرى، أدبها صار عالمياً.. ما المقصود بهذين التوصيفين، وماذا تعني لك الألقاب؟ هذا السؤال ينبغي طرحه على الشاعر حافظ محفوظ، رئيس تحرير مجلة الحصاد الصادرة في لندن، وأحد خريجي دار الصياد الذين عاصروا في يفاعتهم الكبير سعيد فريحة، فهو الذي اختار لي هذا اللقب لأن بعض كتبي تمت ترجمتها إلى 18 لغة، وصدر عني عشرون كتاباً نقدياً بعضها بالفرنسية والإنجليزية والإيطالية، ولها ترجمة عربية. الألقاب كالجوائز لا تصنع أديباً. إنها رسالة مودة أبجدية من رفيق حرف. * هل يمكننا القول بمدرسة غادة السمان في الأدب؟ أنا النورس لا إبرة البوصلة أو مؤشر اتجاه الرياح. لست أكثر من كاتبة في ملكوت الكلمة، ولم يخطر ببالي يوماً أنني أفتتح مدرسة أدبية أو ما شابه. كثيرون يكتبون كتاباً أو قصيدة ثم يقومون بكتابة عدة كتب للتنظير لها في مديح مبطن لأنفسهم. وأغبطهم لكنني لم أشعر يوماً بشهوة التبجح والمشي في أرض الأبجدية مرحاً.. أنا فقط كاتبة تحاول منذ ألف عام أن تتعلم فن الكتابة الحقيقي. وحين أتعلمه سيكون قد حان وقت موتي! *ما هي خصوصية أدب غادة السمان على لسان غادة تحديداً؟ لا أعرف. بالمقابل أستطيع القول بلا تحفظ إنني عاشقة الحرية وحليفة التعددية، وإنني عشقت لبنان، لأنه كان، ويجب أن يظل كذلك عاصمة الحرية الفكرية العربية في عالم عربي، تكاد رياحه في بعض الأقطار تهب صوب الظلامية، وأحادية التفكير وقتل المختلف. * كتبت في أدب الرحلة وفي الشعر والرواية والقصة، إضافة إلى أعمالك غير الكاملة، بلغت كتبك أكثر من أربعين كتاباً في أكثر من أربعين سنة. ماذا يقول لك الماضي، وماذا عن المستقبل؟ يقول لي الماضي: أنا مختبر تجارب للمستقبل، ولست وثناً للتعبد أو البكاء على أطلاله. أنا مصباح يدوي عتيق يساعد على تبين الطريق الآتي. الماضي لا يساعدني لكنه زوادتي لكي لا أكرر أخطاء ما مضى. ولكنني أكررها أحياناً! * تقولين في إهدائك لجديدك امرأة على قوس قزح: لعلي ولدت وفي فمي بطاقة سفر مضرجة بالرحيل، لماذا السفر دائماً نقطة ضعفك الإبداعي وأيضاً الرحيل؟ لأن الجسد حقيبة سفر.. و القلب نورس وحيد في غربة تحت الصفر. ولأنني عايشت دائماً رعشة الحرية، وشهوة الأجنحة.. وكلها من عناوين كتبي في أدب الرحلات. * امرأة فوق غيمة كان هذا العنوان يتطابق وشخصك وكتاباتك في الطيران الدائم صوب الرياح.. هل توافقين؟ أوافق بالتأكيد.. وما دمت قادرة على حمل حقيبتي الصغيرة، والركض خلف القطارات والطائرات في المطارات سأظل أرحل.. كمن يقيم في المنطقة الحرة في كوكبنا.. فالموت وحده في نظري هو الاستقرار المؤكد! * أدب الرحلات محبب لديك، نراك تحوشين من كل العالم ورود الحب والحرية، وأيضاً الوجع والفراق، هل يمكن أن نطلق عليك لقب ابن بطوطة القرن الأخير؟ لعلي واحدة من أحفاد ابن بطوطة، وهم كثر.. بوسعك أن تطلقي عليّ أي لقب تجدينه مناسباً.. من طرفي كل ما أفعله هو ما جاء في سؤالك الجميل، أي حرصي على قطف ورود الحب والحرية. أمّا عن الوجع والفراق، فهما من أسياد القلب العربي، في زمننا العربي الحالي بالذات. * في جديدك امرأة فوق قوس قزح سياحة عالمية وسواحة في معظم دول العالم، نقلت في هذه السياحات عادات بعض هذه الدول، وتقاليد ناسها، مطاراتها، طائراتها، فنادقها، أنهارها، ذكرياتها، إلى بقية الحكايات، ماذا تقول غادة في مشاهداتها اليومية، وما الدافع لمتابعة هذه المشهديات؟ لا أظن أن قلبي كان في أي يوم يعرف بالضبط لماذا يعاقر الكتابة.. كنت أكتب حتى قبل أن أبلغ سن المراهقة.. وأخفي ما أكتبه في تلك الخزنة السرية التي يعرفها المراهقون العرب، أو معظمهم أي تحت فراشهم.. وكنت أحرص على ألّا أنسى تبديل المخبأ يوم الأربعاء، قبل الذهاب إلى المدرسة، لأن الخميس كان موعد غسل ملاءات الأسرة في بيتنا.. وكنت قد علقت على جدار غرفتي خريطة العالم، وأنا ألمس بأصابعي مدنها التي تجتذبني، وأركض في دروبها كحلم.. ثم أحببت أن يصير الحلم حقيقة، ولكن الكثير من الأحلام يؤلمنا تحقيقها. حين أرحل، أحب أن أستضيف قارئي معي في رحلاتي، فالقارئ هو حبي الكبير بعيد المدى من زمان... وحده الذي لم يخذلني في عالم يزداد توحشاً وإمعاناً في شرنقة القلب المتوحد بالصمت، وقد رفضت ذلك المصير.. أحببت التواصل مع أمثالي. *هل حقاً الذاكرة هي فن النسيان، يعني أنتِ مع فقدان الذاكرة المريضة؟ الذاكرة ليست مريضة كما تصفينها إلّا بمرض الوفاء لما كان، وأجمل ما في الذاكرة أن بوسعها أن تكون فن النسيان كما كتبت ُمرة وعشته مع إلغاء جزء من ذاكرة شخصية أليمة، قمت بتحويلها إلى سطور في الدورة الأبجدية الدموية، ولست ماهرة في فن النواح على الماضي وأنحاز دائماً للمستقبل. أنا امرأة الآتي حتى إذا لم يأت. *هل في البال كتابات عن الدواعش والإرهاب والحرب العالمية على شرقنا التعيس؟ الداعشية الفكرية ليست جديدة على عالمنا العربي الإسلامي، ولطالما كتبت ضدها في كل ما أخطه. أما ما جاء في سؤالك عن الحرب العالمية على شرقنا التعيس فنحن لا نستطيع أن ننفي مسؤوليتنا عنها - لا أحب اتهام الآخر فقط. * لكل كاتبة أسئلتها الخاصة. كيف تصغي غادة إلى أسئلتها ونفسها؟ لست من أتباع أذن من طين وأذن من عجين في مواجهة أسئلتي عن ذاتي وعالمي. أحاول ألّا أخون نفسي أياً كان الثمن. * ماذا تقولين للعالم الذي يغلي؟ أقول لنفسي وأنا أغني معه أنني عاجزة عن تبرئة الذات العربية من استدعائها للغليان! * سمعنا أنك في صدد إصدار مذكراتك قريباً؟ أحاول كتابتها وسرقة الوقت لذلك، لكنني ماهرة في فن هدر وقتي في الاستمتاع بوقتي في باريس! * ماذا ستقول غادة في هذه المذكرات، وما هو السر الذي ستبوح به وحان أوان قطفه؟ لن أفسد عليك متعة مطالعتها بالبوح المسبق، ولكن هل ثمة حقاً من يبالي بأسرار الآخر؟ وهل أرغب في كتابة مذكراتي لأعيش حياتي ثانية، أم ترانا نكتب مذكراتنا كمحاولة أخرى عبثية لهزيمة الموت المحتوم - على الجميع - باللغة وبالأبجدية السحرية؟ * أعمق أحلام المرء تأخذه إلى الإبداع، هل توافقين على ذلك؟ وما هي أحلامك الآن؟ أحلامي؟ هل ثمة حقاً من يبوح بأحلامه الداخلية دون أن يكذب قليلاً؟ وهل تأخذنا الأحلام إلى الإبداع حقاً أم إلى كوكب آخر؟ بالمقابل، الحلم هو الصدق المطلق، وهو مسرحية يكتبها حتى الأمي، بإبداع يفوق إبداع شكسبير! * في ظل ما يجري وما نسمع وما نشاهد، إلى من تنحازين وهل أنت عنصرية؟ نعم أنا عنصرية منحازة إلى رفض الفتنة الكبرى بين السني والشيعي والمسلم والمسيحي.. أنا عنصرية جداً حين يتعلق الأمر بحرية الكلمة والحرية الفكرية والسلاح، بينهما الحوار، لا لغة القوة والمتفجرات والتهديد والوعيد. وأجد في لبنان الملاذ العربي النسبي من تلك الأهوال كلها، حتى ولو حاول البعض إرغامه على العكس من ذلك. أكرر: أنا مع لبنان عاصمة الحرية العربية والتعددية والانفتاح والإبداع. * برأيك هل نعيش هذه الأيام صراع حضارات وثقافات وأديان؟ في لبنان نعيش صراع مصالح بأقنعة دينية وصراع نفوذ متستر بأقنعة حضارات وثقافات.. ما لم يفهمه البعض أننا إذا خسرنا لبنان الذي يقامر البعض به، يغرق الجميع في مركبه، أي المهزوم والمنتصر.. فالوطن هو الذي يحتوينا، وبدونه كلنا لا أحد، بل مشروع مشردين يتسولون بطاقة إقامة. * ترجمت معظم كتبك إلى لغات عديدة، هل الترجمة تروج للحداثة وللكاتب ليصبح عالمياً؟ تترجم الآن روايتي الجديدة يا دمشق وداعاً عن دار نشر لندنية. وبدون تواضع كاذب يحب المرء أن يطالعه الناس في أقطار أخرى، قد لا يعرف لغتها أو يتقنها، ولكن قراءة كتبه المترجمة - له ولسواه - تؤكد له أن لغة القلب الإنساني واحدة وهي تتطلع إلى المحبة والحرية والسلام. * الأدب الهابط احتل في عصر الإنترنت مكانة واسعة في وسائل الإعلام والتواصل كافة، كيف تنظرين إلى ذلك، وإلى ماذا يعود السبب وما الحل؟ الأدب الهابط ليس سمة عصرية، لكنه تعايش دائماً مع الأدب الراقي، في العصور كلها، على نحو ما. كل ما في الأمر أن الإنترنت يمنح الهابط فسحة أكبر للظهور، وبالمقابل يمنح الجيد أيضاً فرصة للمزيد من الانتشار. وكل أداة يخترعها الإنسان، يمكن أن تكون وسيلة لنشر العطاء أو الهراء. * نسمع بجوائز عالمية وعربية عديدة تحت شعار القصيدة العملاقة، والرواية العملاقة، ما هي الجائزة التي يستحقها الكاتب، وعلى ماذا تقوم؟ لم أكن يوماً صيادة جوائز، ولم أسع صوب الجائزة.. والإبداع الحقيقي ينفذ إلى قلب القارئ كشعاع، بجائزة أو بدونها حتى ولو تأخر وصوله. أتبنى الجوائز للجيل الجديد والكتاب الأول. * كيف تنظرين إلى روايات اليوم؟ وبماذا نختم معك؟ أنظر إليها نظرة إيجابية. ثمة جيل جديد يشبهنا ويشبه الأدب في الأزمنة كلها، أي أن بعضه مبدع جداً سيبقى، والآخر هراء آني مدعوم بفساد ما، مالي أو نفوذي أو غير ذلك. ولكن الزمن غربال لا يخطئ. ثمة اليوم مبدعون من الجيل الشاب في حقل الرواية وغيرها، ولي أن أقول إن الذين يدعّون أن نهر الأدب العربي جف بعدهم، هم الذين جفوا!
مشاركة :