«أطلقوا النار على اللاجئين» حال اقترابهم من الحدود الألمانية، هذا الإعلان الذي أطلقه حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني الشعبوي أثار موجة من الاستياء والسخط في أوساط الرأي العام الألماني، إلا أن الأكثر فظاعة برأي المراقبين هو أن هذه الفكرة حفزت سجالات ونقاشات ساخنة وردود فعل متباينة في الأوساط الشعبية والإعلامية، كشفت حقيقة صادمة عن القوة المتنامية لهذا الحزب في أوساط فئات مختلفة في المجتمع، إذ تشير بعض استطلاعات الرأي الأخيرة إلى معطيات مثيرة للقلق بالنسبة إلى النخب السياسية الألمانية والأوساط الليبرالية، تؤشر إلى تحول هذا الحزب المناوئ للهجرة واليورو والمعادي للمسلمين إلى أقوى أحزاب المعارضة، وذلك بعد فوزه بنسبة تعدت الـ 20 في المئة من الأصوات في الأجزاء الشرقية من البلاد، ما يؤهله لدخول المجالس النيابية بولاياتها الثلاث». وتعهدت زعيمته فراوكه بيتري لعب «دور المعارضة التي لم تعد موجودة في البوندستاغ» وفق تعبيرها. تمكن حزب «البديل من أجل ألمانيا» الذي تأسس العام 2013 من الاستحواذ على مساحة دعم شعبية في مناطق غرب ألمانيا حيث أصبح ثالث قوة حزبية بعد الاتحاد المسيحي والحزب الاشتراكي الديموقراطي، ما يعكس أسوأ سيناريو لمركل التي راهنت على تاريخها ووضعت مستقبلها على المحك العام الماضي بقرارها فتح أبواب ألمانيا أمام أكثر من مليون لاجئ ومهاجر في خطوة رفضها الناخبون وعاقبوها عليها بتصويتهم للحزب القومي الشعبوي. سجلت ألمانيا رقماً قياسياً جديداً في عدد المهاجرين وفق ما ظهر من بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي، فقد بلغ عددهم العام الماضي 9.10 مليون شخص بزيادة قدرها مليون شخص (6.10 في المئة) عن العام 2011، ومقارنة بالعام 2013 ارتفع عدد المنحدرين من أصول أجنبية بنسبة (7.3 في المئة)، وبذلك ينحدر واحد من كل خمسة أفراد في ألمانيا البالغ عدد سكانها 89.8 مليون نسمة من أصول مهاجرة. ووفقاً للبيانات ذاتها فإن 56 في المئة من المهاجرين يحملون الجنسية الألمانية. شحنت نتائج الانتخابات بما وفرته من آفاق واعدة الشعبويين الذين يطلق عليهم بعض المحللين وصف «النازيين الجدد» بقوة فائضة أبعدت تفكيرهم عن أي قلق بفقدانهم ثقة الناخبين حتى ولو واصلوا إطلاق وترديد شعارات استفزازية تواجهها وسائل الإعلام بغضب عارم وتعبئة مناهضة للرأي العام دفعت في نهاية المطاف زعامة هذا الحزب الى اتهام خصومه بإخراج آراء وأفكار قياداته من سياقها العام، وسارعت نائبة رئيسه فون شتورخ التي كانت أول من أطلق فكرة استخدام النار ضد اللاجئين إلى التبرؤ مما نسب إليها بقولها بامتعاض مصطنع « لم نعد نحتاح إلا إلى إطلاق الرصاص على اللاجئين!». من الناحية القانونية يعد استخدام السلاح ضد منتهكي حدود أي دولة في ظروف محددة فعلاً مشروعاً تقوم به قوات حرس الحدود، ولكنه يمنع في حال عدم حيازة المتسللين السلاح، ويحظّر استخدامه ضد الأطفال أيضاً. وقالت بيتري: «قصدت أن يستخدم السلاح فقط في الحالات القصوى». غموض تضطرد قوة «البديل من أجل ألمانيا» في طريقة تعاطيه مع وسائل الإعلام التي تصبح من دون إرادتها منبراً يستخدمه قادته للترويج لأفكارهم وبرامجهم من خلال مقابلات وتصريحات منتقاة تعابيرها بدقة تعجّ بصياغات متعددة المعاني. ويستفيد الحزب من حالة الارتباك التي استحوذت على الألمان نتيجة غموض سياسة حكومة المستشارة مركل حيال اللاجئين، ويستثمرون هذا الغموض في شكل تضليلي لاجتذاب أكبر عدد من الأنصار من فئات مختلفة، وأظهرت بعض استطلاعات الرأي أن أعداداً متزايدة من الألمان أخذت تميل إلى قبول استخدام السلاح ضد اللاجئين، لأنهم لا يرون أي حلول ناجحة لوقف موجات اللاجئين. السؤال الأكثر ترداداً في الأوساط الاجتماعية والسياسية هو إلى أي مدى ستصل حدود ومستويات الدعم الشعبي لهذا الحزب في المستقبل؟. توقعات مراكز البحوث ووكالات استطلاع الرأي تشير إلى تنامي فرص نجاح الحزب في سحب البساط من تحت أقدام الأحزاب الصغيرة على غرار حزب الخضر أو حزب اليسار أو الحزب الليبرالي الحر، مع استبعادهم أي إمكانية لإبعاد الحزب المسيحي والحزب الاشتراكي الديموقراطي عن الحكم. تكتسب الانتخابات المحلية التي حقق خلالها الحزب نتائج لم تكن متوقعة من الكثيرين، أهمية فائقة لما لها من تأثير كبير في السياسة الفيديرالية في ألمانيا على رغم أنه لا يحق للحكومات المحلية للولايات الست سن قوانين خاصة بها إلا في مجالات قليلة جداً ومحدودة محلياً وفقاً للمادة 72 من الدستور الألماني. ويتمثل في مجلس الولايات الفيديرالية رؤساء الحكومات المحلية الستة عشر، ويشكل المجلس إلى جانب البرلمان الاتحادي (البوندستاغ) هيئة تشريعية في ألمانيا، ما يعني أن لمجلس الولايات تأثيراً يضاهي تأثير البرلمان الاتحادي، إذ بمستطاعه تمرير قوانين تقترحها حكومة مركل أو رفضها ومن بينها قانون اللجوء، ما يمكن أن يستخدم كمفصل لتكثيف الضغوط على مركل وشركائها في السلطة لانتهاج سياسة لجوء أكثر تشدداً، إضافة إلى عرقلة مشاريع القوانين عند وصولها إلى مجلس الولاية. يظهر من الممارسة السياسية للحزب وسلوكه الدعائي، أنه واثق من قدرته على فتح ثقوب في الجدران النفسية والمجتمعية الألمانية الرافضة للإيديولوجية النازية والعنف والعنصرية، بحيث تمكن من استغلال فئات مجتمعية عديدة وحوّلها إلى أدوات تساعده على استكشاف الأبعاد المحتملة للنقاشات الدائرة حول اللاجئين في المجتمع الألماني، وتوفر له وسائل التواصل الاجتماعي والميديا في شكل عام فرصاً لا نهاية لها لنشر أفكاره القائمة على بثّ الكراهية والانقسامات على أساس عرقي وديني في المجتمع لأنه ليس من المهنية والحرفية تجاهل ظاهرة أو حالة ناشئة من دون تسليط الضوء عليها وتفسيرها. ويستنتج مراقبون أن «خيار إطلاق النار المطروح كشعار قد يكون خطوة تسبق سلوكاً أكثر عدوانية من جانب الحزب في المستقبل». مؤشرات مثل هذه العدوانية لاحت تباشيرها قبل أسابيع مع تجدد احتجاجات كانت قامت بها الجاليات الروسية قبل أشهر وذلك في برلين ومدن أخرى بتحريض من ماكينة الكرملين الدعائية ضد سياسة مركل الخاصة باللاجئين. ومن الأسرار الشائعة في أوروبا أن بوتين يسخّر مؤسسات ميديا أوروبية ومواقع يموّلها رجال أعمال روس والدولة الروسية لضخ الأكاذيب والقصص الملفقة عن اللاجئين والإرهاب لتأجيج المجتمع ضد الحكومة الفيديرالية، وهي لعبة مارسها ولايزال ضد دول أخرى بهدف تقويض استقرارها السياسي الداخلي. ليس جزءاً من المشهد الألماني أقرّ المؤتمر العام لحزب «البديل من أجل ألمانيا» الذي عقد في شتوتغارت في الأول من أيار (مايو) الجاري بنداً في برنامجه ينص على «أن الإسلام ليس جزءاً من المشهد الألماني» ، وبنداً آخر يدعو إلى «منع النساء من ارتداء الرموز الإسلامية مثل النقاب والحجاب في الأماكن العامة، ومنع استخدام مكبّرات الصوت للأذان، وحظر تشييد المنارات». ووصف الائتلاف الحاكم في بيان أصدره، السياسات التي أقرّها الحزب في مؤتمره بأنها «متخلفة وتناقض القيم الأوروبية»، وقالت الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الديموقراطي كاتارينا بارلي: «إن سياسات الحزب معادية للاقتصاد تماماً بموقفه المناهض لليورو الذي يهدّد عشرات الآلاف بخسارة وظائفهم وأعمالهم» وقال رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز: «إن أفكار الحزب في شأن الإسلام مثيرة للاشمئزاز». ودخلت الصحف الألمانية على خط هذه الانتقادات، وقالت صحيفة «فرانكفورتر روندشاو» إن: «هذا الحزب يشعل نيران الإسلاموفوبيا ومعاداة الأجانب ما سيقود إلى انقسامات خطيرة في المجتمع». وذكرت صحيفة «دي فيلت» إن «أعداء المجتمع المفتوح يستغلون بشراهة الإمكانات التي يتيحها هذا المجتمع لتقويض أسسه من الداخل». واعتبرت جريدة «فرانكفورتر الجماينة تسايتونغ» فكرة الحزب بأن «الإسلام ليس جزءاً من المشهد الألماني» مؤشراً إلى «الطابع الاستفزازي لتوجهات هذا الحزب» وتساءلت «من ومتى أعطى الحق للسياسيين والأحزاب السياسية ليقرّروا من يجب أن يكون أو لا يكون جزءاً من المجتمع الألماني؟»، وأضافت «أن زعامة الحزب أطلقت العنان لغرائز الكراهية العرقية والدينية الكامنة في نفوس أنصار الحزب وداعميه ضد المسلمين والإسلام». وقال المتحدث باسم الحكومة شتيفن زايبرت «أمر واضح أن الإسلام ينتمي حالياً إلى إلمانيا» وأضاف «أن الدستور يكفل حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية من دون عوائق أو عقبات». وقد ساعدت فضائح التحرّش الجنسيّ في كولون والهجمات الإرهابية في باريس وبروكسيل في بعث الروح في جسد «حزب البديل من أجل ألمانيا» الذي كانت دمامل الرفض الشعبي الواسع أصابته بالضعف والهوان، وأخرجته تصريحات قادته من دهاليز الاجتماعات وأقبيتها لتحفز من جديد النقاشات المجتمعية والسياسية والأكاديمية حول التهديد الوجودي الذي يشكله الإسلام على المجتمعات المسيحية الأوروبية. مساجد الفناء الخلفي يعيش في ألمانيا وفق بيانات وردت في دراسة ميدانية نحو 4.5 مليون مسلم، يشكلون 5 في المئة من سكان البلاد، ويحمل 45 في المئة منهم الجنسية الألمانية (1.9 مليون) في حين يحتفظ 55 في المئة بجنسيات بلدانهم الآصلية. ويتضح من استطلاع أعدته مؤسسة «بيرتلسمان» الألمانية وحمل عنوان «التديّن الإسلامي في ألمانيا» أن 90 في المئة من المسلمين الذين يعيشون في ألمانيا متدّينون بدرجة كبيرة، ولكنهم ليسوا متزمّتين ولا متطرّفين» و «إن هذا التديّن القويّ لدى المسلمين يصاحبه قبول بتعدد الأديان والتسامح إزاءها». كما أكد 86 في المئة ممن شاركوا في الاستطلاع ضرورة أن يكون المسلم منفتحاً على الأديان الأخرى، مقابل رفض 6 في المئة فقط. فيما أشار 50 في المئة إلى أن ليس للتدين أي تأثير، أو له تأثير ضعيف في قراراتهم السياسية. أثارت موجات اللاجئين خلال العام الماضي تبدلات جوهرية في أمزجة الرأي العام الأوروبي بحيث نمت التيارات المناهضة للأجانب والإسلاموفوبيا، فلقد أظهر استطلاع أجرته صحيفة «بيلد» الألمانية بالاشتراك مع معهد (إينسا) أوائل العام الحالي أن «60 في المئة من الألمان يوافقون على أنه لا مكان للإسلام في ألمانيا» وأعرب» 46 في المئة عن قلقهم من أن يسيطر أنصار الإسلام السياسي على ألمانيا، وأكد 30 في المئة أنهم لا يرغبون في العيش جنباً إلى جنب مع الشعب المسلم، فيما كان استطلاع آخر أجري في كانون الثاني (يناير) العام الماضي كشف «أن 37 في المئة من الألمان رأوا مكاناً للإسلام في ألمانيا». فيما يحتدم الجدل في المجتمع الألماني حول الإسلام والمساجد والحجاب و البرقع، دعا رئيس كتلة الاتحاد المسيحي الديموقراطي في البوندستاغ فولكر كاودر إلى أن تقوم الدولة بمراقبة المساجد، مبرراً ذلك بوجود عدد كبير من أئمة المساجد ممن يلقون خطباً لاتتماشى مع «المفهوم الألماني للدولة». وتزامن هذا التصريح مع اتهام زعيمة «حزب البديل من أجل ألمانيا» بيتري رئيس المجلس الأعلى للمسلمين أيمن مزيك بأنه «لا يعمل من أجل ادماج المسلمين»، وقالت في حوار مع صحيفة (راينشه بوست) إن «الكثير من المسلمين لهم مواقف سلبية من إسرائيل وهو ما يعيق الحوار بين الديانات داخل ألمانيا». ويتّضح من استطلاع أجراه معهد «يوغوف» بتكليف من وكالة الأنباء الألمانية (د. ب.أ) أن 51 في المئة من الألمان يؤيّدون حظر ارتداء الحجاب في المدارس، مقابل 3 في المئة قالوا إنهم لا يعارضون ارتداءه في المدارس، فيما دعا11 في المئة إلى تحديد الفئة العمرية التي تبدأ فيها الفتيات المسلمات بارتداء الحجاب في المدارس». وأعرب 56 في المئة من أعضاء وأنصار التحالف الذي تقوده مركل عن رغبتهم في حظر ارتداء الحجاب في المدارس، ووافق فقط 5 مسلمين من بين 36 مسلماً على حظره مقابل 23 مسلماً أيّدوا استمرار ارتداء الحجاب بغض النظر عن الفئة العمرية. «مساجد الفناء الخلفي» هي عبارة عن مبان كانت مصانع أو مستودعات مهجورة قام المسلمون بتصليحها وترميمها وتأثيثها لتكون مساجد و أماكن يتجمعون فيها في أوقات مختلفة. وتشير بيانات «الأرشيف الإسلامي» في زوست شمال الراين وستفاليا إلى وجود 240 مسجداً تقليدياً، أي بقبَّة ومأذنة، ونحو 2600 مكان للصلاة. وفي خريف 2008 تم تدشين أكبر مسجد في ألمانيا في ديسبورغ - ماركسلوه. الأئمة الأتراك يحتدم النقاش في ألمانيا حول الدور الذي يلعبة الأئمة الإتراك في الحياة الدينية للجاليات المسلمة في البلاد. ويبلغ عدد هؤلاء وفق البيانات الرسمية 970 إماماً قدموا إلى ألمانيا عبر اتحاد الجمعيات الإسلامية التركية في ألمانيا (Ditib). ووفقاً لزعيم حزب الخضر الألماني تشيم أوزدمير في حديث إلى صحيفة «فيلت أم زونتاغ» فإن «ديتيب ليس إلا الذراع الطويلة للدولة التركية» وقال: «بدلاً من العمل والحرص على تنميتها كرابطة مستقلة تهتم برعاية وترتيب شؤون الجالية المسلمة الدينية، فإن الحكومة التركية جعلت من ديتيب منظمة سياسية وكواجهة لحزب العدالة والتنمية»، داعياً تركيا إلى «أن ترفع يدها عن المسلمين في ألمانيا». إلا أن أستاذة العلوم الدينية حامدة مهاجيجي قالت في مقابلة مع «دويتشه فيله» إن الجالية المسلمة ليس أمامها خيار آخر غير جلب الأئمة من الخارج، لعدم قيام أي جهة رسمية في الفيديرالية بإقامة مراكز ومعاهد دينية تتولى مهمة إعداد الأئمة والكوادر الدينية محلياً»، واستدركت «تمّ الانتباه لهذه المسألة حديثاً، وتقوم المعاهد الحديثة التأسيس بتدريس الطلاب المسجّلين فيها ليكونوا أئمة على اطلاع واسع على أصول الفقه والدين الإسلامي». ويتلقى الطلاب في هذه المعاهد والمراكز دروساً ومحاضرات في تأريخ الأديان الأخرى وتعاليمها وشعائرها ودورها في المجتمعات الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة». وينفي مدير «مركز الدراسات الإسلامية» في مدينة مونستر مهند خورشيد وجود سلوك مثير للريبة من الناحية السياسية في أوساط الأئمة القادمين من تركيا، وقال: «لا أرى لدى الأئمة المعينين من جانب ديتيب أية مؤشرات تدل على أن خطبهم لا تتوافق مع معطيات الدستور».
مشاركة :