في مقال ضاف نُشر على هذه الصفحة، يوم السبت الماضي في 21 أيار (مايو)، تحدث الكاتب المرموق كرم الحلو عن «أزمة الإنسان المعاصر»، الذي امتلك على نحو متزايد كل مقومات الحياة المادية، خصوصاً فى الدول الأكثر تقدماً أو ثراءً، لكنه، في الوقت نفسه، يشعر بتعاسة متزايدة، وقلق روحي، واضطراب نفسي، وهي قضية طالما شغلتني شخصياً، وسعدت بإثارة الأستاذ كرم لها، خصوصاً أنني أوافقه على جل ما تفضل به من تفسيرات ثاقبة ورؤى لماحة، أردت فقط الجدل معها تحفيزاً للحوار حولها. إنها «أزمة المعنى» التي دار ولا يزال يدور حولها جدل كبير فى علم الاجتماع الغربي، والتي تنبت من شعور الإنسان المعاصر بالتعاسة والتوتر على رغم إشباع كل احتياجاته المادية، الضرورية والكمالية، إلى درجة لم تتحقق قطعاً فى أي حقبة تاريخية سابقة. ومن ثم يتبدى أن مصدرها روحاني بالأساس، يتمثل فى الشعور بالافتقار إلى معنى كلي للحياة صار متعذراً تحت وطأة الإيقاع اللاهث للواقع اليومي، إلى درجة جعلته مجموعة تفاصيل متناثرة لا قصد لها، وبفعل العلاقات الإجتماعية المحايدة التي تتمحور حول صيغ تعاقدية تتأسس على الحقوق والواجبات، وتخلو من الحميمية والترابط الوجداني. ولكنني هنا أود أن أدفع حدود الحديث إلى تخوم «نهاية المعنى» وليس فقط أزمته، حيث الأزمة صارت وجودية، بفعل دوافع عدة نتوقف عند ثلاث أساسية منها: الدافع الأول ديني، يتمثل فى غياب الإيمان الروحي العميق، المرتبط بالحضور الإلهي القدسي فى عالمنا، والقادر على تنمية العوالم الداخلية للإنسان، من خلال ربطه رأسياً بعالم الغيب، على نحو يذكره بمآله ومصيره، ويستخرج منه أنبل ما فيه، إذ يبثه ضميراً خلقياً مريداً للخير هياباً للشر، مدفوعاً إلى الحق، رافضاً الظلم. كما يربطه أفقياً بعالم الشاهد، أي البشر الآخرين، ربطاً يقوم على المحبة والتراحم، ويناقض القسوة والعنف. هذا الإيمان الروحي العميق، لا يكاد يوجد الآن بفعل الزحف الشديد لظاهرتين متناقضتين: أولاهما الأصولية الدينية وما تولده من تطرف وعنف، يؤدي إلى القتل باسم المقدس. وثانيتهما العلمنة الوجودية، التي تفصل الإنسان عن المقدس، وتتعامل معه باعتباره كياناً مادياً بحتاً، مجرد شيء مسطح بلا أعماق جوانية أو أخلاق سامية. ففي وجود أحد الأمرين أو كليهما إما يختفي الإيمان تماماً أو ينقطع أثره، ليصبح كلٌّ إله، وفي كل دين، مثل إله أرسطو مجرد مبدأ أول محرك للعالم، لا يرعاه ولا يحضر فيه ولا يعتني بأهله، لأنه فى الأصل لم يخلقه. والدافع الثاني اقتصادي يتمثل فى الهيمنة شبه المطلقة للمجتمع الاستهلاكى، الذي يثير مخاوف الإنسان القادر وليس فقط غير القادر، ومن ثم انشغاله الدائم بتنمية عوائده المالية، إما خشية الانزلاق إلى مستوى مادي أدنى، وإما لتلبية حاجات الإنفاق النهم على ملذات يتم اختراعها يومياً؛ وبفعل هذا النهم المادي يفقد الإنسان إحساسه بمعنى «الرزق»، أى شعوره التلقائي الجميل بفرحة الكسب المالي الذي يأتيه فجأةً، فيسعد به ولو كان قليلاً، وذلك أمام طغيان مفهوم «الدخل» الذي لا يثير في النفس ألقاً أو مرحاً مهما كانت قيمته. فالإنسان المعاصر صار يعلم مصادر دخله، ويدرك على نحو مسبق ومخطط، حجم عوائده المقبلة، التي لا يسعد بها إذا ما جاءته كاملة، لأنه كان عارفاً بها. ولأنه قام بتوظيفها فى دورة إنتاج أو إستهلاك قبل أن تأتيه فعلياً، أو على الأقل خطط لكيفية توظيفها، ربما عبر الفيزا كارد، من دون أن يلمس الأوراق المالية نفسها. أما إذا أتته تلك العوائد ناقصة نسبياً عما توقعه، فسيبدو مختنقاً تماماً، حتى ولو كانت قيمتها الإسمية بالملايين أو حتى المليارات. ويرجع ذلك إلى أن الإنسان يعتاد ما يملك، ولا يتفاعل نفسياً إلا مع حجم التغير في ما يملك، صعوداً وهبوطاً، فهذا التغير وحده، هو الذي يبدو مثيراً لمشاعره، وهكذا تقل مشاعر الفرح مع موت فكرة الرزق بتلقائيتها المثيرة للمرح، وتزداد مشاعر القلق أمام مفهوم الدخل، بجموده الباعث على الضجر. أما الدافع الثالث فعاطفي، يتجاوز مجرد ذبول الصداقة الودودة التي تحدث عنها الأستاذ كرم، إلى ذبول ظاهرة الحب الرومانسي، إحدى أنبل العواطف البشرية، بفعل اختفاء المسافات المكانية الفاصلة بين الناس فى عالم متلاطم يكاد يسوده قانون زحام يخرج منهم أسوأ ما فيهم، ويعطل أجمل ملكاتهم، إذ يعري الروح من خصوصيتها، ما يفضي إلى ابتذالها، وتقويض عذريتها، بما يصاحب ذلك من جرأة فى التعبير عن العواطف، وسطحية مفرطة فى التعاطي معها، ومن ثم صارت القصص العاطفية قصيرة العمر وإن طالت، لا تنتج أثراً في الروح ولا تغييراً فى معالم الطريق، على نحو ما كان مفترضاً من تلك العاطفة التي تمثل، حال صدقها، إعادة اكتشاف للذات الإنسانية. والمشكة هنا أن ذبول تلك العاطفة لا يتوقف عند حدودها، كونها تملك «أثر الفراشة»، وتؤثر في شتى العلاقات الإنسانية المحيطة بها، فمع شيوعها وتدفقها غالباً ما تنمو أواصر مجتمع رحيم، أكثر ترابطاً وانسجاماً وأقل توتراً وصراعاً، فالمحب الصادق هو شخص قادر على التواصل مع الكون كله، وليس مع المحبوب فقط. ومع اختفائها، يصاب المجتمع بتصحر شديد، تتسع معه المسافات الروحية بين الناس على رغم تضاغطهم الجسدي، وينقطع بينهم التواصل على رغم النمو الفائق فى وسائل الإتصال، فالفارق هائل بين التواصل الإنساني الحميم والاتصال التقني البارد. ولعلي أفضل هنا، ولهذا السبب، مصطلح «المشهد الكوني»، بما يعنيه ضمناً من معاني الاتصال والامتداد والمكاشفة، وما يوحي به من أداء تمثيلي دعائي، لوصف المجتمع المعولم بديلاً عن مصطلح «القرية الكونية» الذي ساد استخدامه فى وصف ذلك المجتمع نظراً إلى ما يثيره مفهوم «القرية» في السوسيولوجيا الثقافية من معاني التلاحم والتراحم والتكتل والحميمية، ويوحي به من مثاليات ووعود تبشيرية من قبيل العدالة والتجانس والنمو المتوازن وغيرها من قيم إنسانية لا نجدها قائمة فى مجتمعات الما بعد (الصناعة، الحداثة...) ولا نظن أن ثمة سعياً إليها من قبل مراكز الفعل المؤثرة أو القائدة لعالمنا المعاصر. * كاتب مصري
مشاركة :