«رسائل إخوان الصفا»: الفلسفة والسياسة والعلم معاً

  • 5/23/2016
  • 00:00
  • 27
  • 0
  • 0
news-picture

حدث ذلك، كما يقول لنا الأب يوحنا قمير في كتاب له، في زمن تفككت فيه «المملكة الإسلامية الى دول عدة (...) وذهبت هيبة الخليفة وفقد سلطانه، واكتفى الأمراء بأن يقدموا الخضوع لسلطته الدينية وينالوا العهد منه»، وفي زمن «ساءت فيه الحياة الخلقية أشد سوء. وأضعف الجدل الديني الفلسفي الإيمان في النفوس» وأتت «شهوة الثراء واللهو لتبيح كل حرام. فإذا النفاق يسود والظلم يفشو». في مثل ذلك المناخ كان من الطبيعي أن تقوم جماعات وأفراد بمحاولات إصلاحية، علنية أو سرية، تستعيد قبساً من العصر الذهب محاولة تطبيقه، وإن عبر اجتهادات يأتي معظمها من البعيد. وهو المناخ الذي برزت فيه جماعة «اخوان الصفا وخلان الوفا» التي يمكن اليوم اعتبارها، حتى خارج إطار البعد المذهبي الديني، أول محاولة لخلق حزب سياسي حقيقي في الإسلام، يقوم على أسس ومبادئ واضحة ومحددة، وتبدو كأنها برنامج عمل سياسي حقيقي. ولنذكر هنا ما قاله أبو حيان التوحيدي في مقابساته، في شأن «اخوان الصفا»، إذ أشار الى انهم «جماعة محبين لأصناف العلم وأنواع الصناعة، منهم أبو سليمان محمد بن معشر البستي - ويعرف بالمقدسي - وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي - ويقال احياناً العوقي - وغيرهم، وصحبهم وخدمهم. وكانت هذه العصابة قد تألفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا انهم قربوا به الطريق الى الفوز برضوان الله، وذلك أنهم قالوا أن «الشريعة قد دُنّست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل الى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية... وصنّفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة، علميّها وعمليّها، وسموها «رسائل إخوان الصفا» وكتموا فيها اسماءهم وبثوها في الوراقين ووهبوها للناس». > إخوان الصفا هؤلاء، الذين تركوا لنا هذه الرسائل - التي يزيد عددها على الخمسين التي ذكرها التوحيدي - نشأوا، كفرقة، في البصرة، عند بدايات القرن الهجري الرابع. وهم استعاروا اسمهم من «باب الحمامة المطوقة» في كتاب «كليلة ودمنة». وهم بأنفسهم، عرّفوا انفسهم وأهدافهم ووسائلهم في رسالتهم الجامعة، وقالوا في دعوتهم الآخرين الى الانضمام إليهم: «... فهلم الى صحبة إخوان لك فضلاء وأصدقاء كرام، علومهم حكمية وآدابهم نبوية وسيرتهم ملكية، ولذاتهم روحانية وهممهم إلهية. واترك صحبة إخوان الشياطين الذين لا يريدونك إلا لجرّ منفعة الأجساد، أو لدفع المضرة عنها. وكن، يا أخي، من المؤمنين الذين بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر». > وإذا كان «اخوان الصفا» قد حددوا غاياتهم، في رسائلهم بأنها «صلاح الدين والدنيا، والاقتداء بالحكمة» بالفيثاغوريين من الحكماء على الأخص من الذين يقوم جزء أساسيّ من فلسفتهم على الأرقام التي نجدها ماثلة بقوة في ثنايا الرسائل التي نحن في صددها هنا، وقالوا إن مذهبهم هو «النظر في جميع العلوم الطبيعية والرياضية والإلهية» مؤكدين أنهم «لا يعادون علماً من العلوم ولا مذهباً من المذاهب»، فإنه من الواضح - وهذا ما يشيرون إليه على أية حال - بأن ثمة غايات سياسية كانت كامنة خلف تحركهم. وهذا ما رآه خصومهم الذين لطالما أكدوا أن الغاية الحقيقية لإخوان الصفا انما كانت الوصول الى الحكم او القضاء على الدولة القائمة على الأقل، وذلك انطلاقاً في شكل خاص من حقيقة أن من يقرأ الرسائل في مجملها لا سيما منها «الرسالة الجامعة» سيجد نفسه أمام مشروع متكامل للحكم يقوم على تسلم الفلاسفة هذا الحكم وربما انطلاقاً من نظرة أفلاطونية يمكن العثور عليها في كتاب «الجمهورية» من دون أن ننسى هنا حضور أفلاطون نفسه في غير مكان من «الرسائل» ولدى إخوان الصفا في شكل عام. > والحقيقة ان من يقرأ تراث إخوان الصفا، الذي تركوه لنا على شكل رسائل لا يفوته ان يتيقن من فكرة أن غاياتهم الأساسية إنما كانت سياسية تعتمد على العلم أكثر منها علمية تعتمد على السياسة. إذ، بالمعنى الحديث للعمل الحزبي، يمكننا ان نرى في خلفية عرض الآراء السياسية والأخلاقية والعلمية والكلامية التي تملأ الرسائل، رغبة في توسيع رقعة المشاركة حتى الوصول الى تأثير في مجرى الأحداث ليس بعيداً من رغبة الوصول الى السلطة. ويتضح هذا، حين نرى مع الأب يوحنا قمير أن «إخوان الصفا ما فكروا بمعزل عن بيئتهم وعصرهم، وما عنوا بالفلسفة طلباً لمتعة عقلية خالصة، أو بحثاً عن حق نظري مجرد، بل كانت علومهم وسيلة وفلسفتهم سبيلاً (...). وإن اسمهم نفسه يعني التعاون والتآخي، ويعني اهدافاً عملية يسعى إليها التآزر ويحققها الإخلاص في العمل». > في كتابه «تاريخ الفلسفة الإسلامية» ينقل ماجد فخري عن السجستاني في «صوان الحكمة» (وهو، كما يقول فخري، أقدم ما بلغنا عن «الإخوان» في المصادر العربية والأصل الذي اعتمده المؤرخون لاحقاً)، إن الجماعة وضعت اثنتين وخمسين رسالة، فضلاً عن «رسالة جامعة». وهذه الرسائل تؤلف، في مجموعها «موسوعة للعلوم الفلسفية التي شاعت بين العرب في القرن العاشر» علماً أن «العلوم الرياضية والفلكية» شغلت منها مقام الصدارة. ولقد قسم «إخوان الصفا» رسائلهم الى أربعة اقسام: الرسائل الرياضية التعليمية - الرسائل الجسمانية الطبيعية - الرسائل النفسانية العقلية - الرسائل الناموسية الإلهية والشرعية الدينية. وإذ يرى عدد من المفكرين انه يمكن التعامل مع رسائل «إخوان الصفا» على ان قيمتها تقتصر على كونها أولاً، صورة للحياة العقلية في القرن الرابع الهجري، وخصوصاً من الجانب الفكري. وهي في الحقيقة مجموع يضم الآراء الفلسفية منذ ايام طاليس الملطي. وثانياً، انها أول كتاب ضم بين دفتيه جميع اقسام الفلسفة، وثالثاً، انها المحاولة الأولى لتثقيف العامة بفنون العلم والفلسفة، يرى آخرون أن التوقف عند هذا الحد من النظر الى الرسائل يعتبر تبسيطاً لها، وسهوا عن غايتها السياسية. ويتأكد هذا من خلال ارتباط الرسائل بأصحابها، الذين كانوا في ذلك الحين يشكلون جمعية سرية لها اجتماعاتها وهرميتها، بحيث ان الرسائل يمكن تشبيهها بـ «التقارير السياسية» التي تطبع الاجتماعات السرية للأحزاب في القرن العشرين. والإخوان عبروا عن هذا في الرسالة الرابعة حيث يقولون: «ينبغي لإخواننا، أيدهم الله، حيث كانوا من البلاد، ان يكون لهم مجلس خاص يجتمعون فيه، في أوقات معلومة، لا يداخلهم فيه غيرهم، يتذاكرون فيه علومهم، ويتحاورون في أسرارهم». وفي هذا الإطار تعتبر «الرسالة الجامعة» الأهم بين رسائلهم لأنها، من ناحية تختصر آراءهم الفلسفية وغيرها، ومن ناحية ثانية تصف اجتماعاتهم (التي «يحضرونها على أحسن ما يكون من الزينة») وأبجديتهم الخاصة التي وضعوها واصطلحوا على أن يكتبوا أسرارهم بها («رأينا ان نكتب ما نريد ان لا يشرك إخواننا في الوقوف عليه غيرهم»). > أما بالنسبة الى مذهبهم، فيرى الكثير من دارسيهم، انه اشبه بخليط بين الأفكار اليونانية (الفيثاغورية مطعمة بشيء من الأفلاطونية، كما أشرنا)، وبين المذاهب الإسلامية (الشيعية والمعتزلية بخاصة)... بل ثمة من بين المفكرين من يؤكد تشيعهم واعتزالهم في وقت واحد. غير ان الأقرب الى المنطق هو انتماؤهم الى الإسماعيلية، مع تداعيات نجدها عند القرامطة، من «العناية بالعلوم الدخيلة» و «تأويل القرآن الكريم تأويلاً رمزياً» والدعوة الى «التسامح والعدالة» و «مزج الدين بالفلسفة» و «الإغراق في الاستناد الى العدد». ولقد لاحظ الباحثون كيف أن الاسماعيليين والقرامطة انفسهم اهتموا برسائل إخوان الصفا «محتجين بها»، «مقتبسين من تعاليمها» وفق تعبير الأب يوحنا قمير. والأب قمير يلخص أفكار إخوان الصفا الأخلاقية، اخيراً، عبر الشعارات التالية: «اعمل الخير لأنه خير»، «ازهد في الدنيا»، «توكل على الله واتصف بالإخلاص والصبر»، «أرد للغير ما تريده لنفسك»، «اخلص للصديق»، اضافة الى شعار يبدو الأغرب والأطرف يقول: «استغن عن الزواج إن استطعت. وأن تتزوج فأكثر من تفقد زوجتك لأن المرأة سريعة التلون، سهلة الاستفساد. أما أهل بيتك فسسهم سياسة واحدة لا تحيد عنها، لكي يتقيدوا بسلوك واحد ثابت، ولا تظهر فاقة لحواشيك فذلك ذل لك».

مشاركة :