ـ 1 ـ في ضوء الخبرة العربيّة - الإسلاميّة الرّاهنة (والمتواصلة)، يمكن أن نقول خلافاً للقاعدة المبدئيّة الإنسانية: تُنتِج الثّورة، كمثل الأنظمة، أشكالاً أخرى من العبودية، قد تكون أحياناً أشدّ من العبوديّات التي قامت من أجل محوِها. وهذا يستدعي بالضرورة أن نكتشف بعقلٍ جديدٍ شقاءنا القديم كلَّه، أنظمةً وثورات، وأن نعرف أصولَ هذا الشّقاء، وأسبابَه. ـ 2 ـ دخانٌ أسود يتكاثف، صاعداً من جرار التّاريخ المهشَّمة. ـ 3 ـ قرأتُ تواريخ كثيرةً لشعوبٍ متعدِّدة: قلّما رأيتُ بشراً ماتوا يتنقّلون بين الصّفحات، شبه أحياء، كما رأيت في كتب التاريخ العربيّ الإسلاميّ. والوهمُ نفسه يكادُ في هذه الكتب أن يكون أكثر واقعيّةً من الحقيقة نفسها. مرّةً على سبيل المثل، في مدينة طنجة بالمغرب، وقفت في المكان الذي انطلق منه طارق بن زياد لفتح إسبانيا. ونظرت في اتّجاهها فرأيت بيوتاً. دهشتُ متسائلاً: هل هذه بيوتٌ مغربيّة؟ وكان الجواب: كلا، إنّها إسبانيا. إسبانيا! تصل إليها من طنجة بقارب صيد! وتراها بالعين المجرَّدة! طبعاً. لم يكن في ذهني وتوهُّمي، بفعل المدرسة والتربية إلا الفتح، والأساطيل، والبطولات... إلخ. واليوم نواصل هذه اللغة الاستيهاميّة! اللغة «الأساطيلية»! فلا يزال واقعنا «قارباً»، وكلامنا عليه «أساطيليّاً»! ـ 4 ـ للكذبِ هو أيضاً، كالصِّدق، أنهارُه وحدائقُه وملذّاتُه. وله كذلك حرّاسُه وجنودُه وحروبُه. وله أيضاً «حقائقُه». وهذه ليست ظاهرة خاصّة بتاريخنا الحديث، وإنّما هي ظاهرة قديمة. «حديث الإفك» مثَلٌ بين الأمثلة الأكثر بروزاً. وربّما تكون هذه الظّاهرة وراء هذا القول المأثور للصّحابيّ عبدالله بن مسعود: «شرُّ الرّواياتِ روايات الكذِب». ـ 5 ـ يبدو في ضوء التجارب التاريخيّة أنّ شهوة الإنسان إلى الديموقراطيّة والحقوق والحريّات والعدالة - أقلّ بكثير وأضعف من شهوته إلى العُنف والبطش والفَتْك. أهذه مسؤوليّة الجماعة، أم أنّها مسؤوليّة الفرد وحده؟ أم هي مسؤوليّةٌ ثقافيّةٌ عامّة؟ أسئلةٌ تجد ضرورتها في ظاهرةٍ تكاد أن تهيمن على الحياة الإسلاميّة - العربيّة، أصوغها في هذا السؤال: لماذا يظنّ الفردُ العربيّ والجمع العربيّ أنّه لا يتحرّرُ، ولا يستكمل حرّيّته إلا بقتل الآخر؟ ـ 6 ـ ألهذا تنهض الثقافةُ العربيّةُ السّائدة على تكوين الفرد التّابع، المتّبع، المُقلِّد. تنهض على تكوين الشّبيه والمماثل والقرين؟ كأنّها ثقافةُ استنساخ. وكأنّ التّراثَ «مُلْكٌ» يُنقَلُ كما هو، بالوراثة من الخلَف إلى السَّلَف. إنّها ثقافةٌ تهمِل العقلَ، وتُعنى بـ «النّفس» وحدها. هل يصحُّ، إذاً، أن نطلِق على هذه الثّقافة اسم «الثقافة النّفسيّة»؟ أين إذاً، البحث؟ أين العقل والاستبصار؟ ـ 7 ـ يعرف جميع المعنيين أنّ التاريخ الثّقافيّ العربيّ عرف حركاتٍ كثيرة في مختلف الميادين، وبخاصّةٍ الشعر والفكر، لمناهضة الاتّباع والتّوكيد على الإبداع. لكنّ شهوة القتل، لم تصل في هذا التّاريخ كلِّه إلى ما وصَلَت إليه اليوم: ممارسة القتل بأشكاله كلّها، كما لو أنّه الطّريقُ الأكثر استقامةً وكمالاً. وفوق ذلك تُسمّى هذه الممارسة معارضة. وبعضهم يتلطّف ويضيف إليها هذا الوصف: متطرِّفة! ـ 8 ـ كلا، نحن الذين ننتمي ثقافيّاً إلى الإسلام العربيّ لا نزال نحيا في تاريخٍ لم نصنعْه. من جهة، كان تاريخنا قد انتهى مع سقوط بغداد عام 1258، أي مع سقوط إبداعاتنا ومنجَزاتنا وحضورنا الخلاق في العالم. ومُذّاك، صار تاريخنا «عثمانيّاً»، في مرحلته الأولى، ثمّ أصبح «غربيّاً» في مرحلته الثانية. اليوم نحيا بلا تاريخ. هكذا نستأنف ماضينا. هكذا نعود إلى البدايات. وهي تشبه في آفاقها، عودة أطفالٍ يلعبون في سهوبٍ من الرّمل. ـ 9 ـ يشارك المسلمون العربُ، اليوم، على نحوٍ مُقلِقٍ، بوصفهم في المقام الأوّل مستهلكين - يشاركون في تدمير الأرض والطّبيعة، إنسانيّاً وحـــضاريّاً، وفي توسيع حدود التلوُّث الشامل: تلوّث الينابيع والأنهار والبحيرات والغابات والجبال والبحار، إضافةً إلى تلوّث العقول والقلوب والثّقافات. وهي مشاركة عمياء وآليّة وجارفة. إنها مشاركة تسير في الاتّجاه الذي يحوِّل الفضاء الإسلاميّ - العربيّ إلى صحراء بالمعنى الحقــيقيّ الكامل، أو بالمعنيين الماديّ والرمزيّ. ـ 10 ـ من رسالة إلى صديق: (...) أن يبدع الشاعرُ هو أوّلاً أن يبدع نفسه. الشاعر، كمثل غيره من أبناء الأرض، لم يولد كاملاً. هو مجــرّد إمـــكان. مجرّد مشروع. وعليه أن يبنيه يوماً يوماً. أن يوجِّه حَياته في سياق هذا البناء، ومن أجله. فلا يكتمل شعرُ الشاعر إلا بقدْر ما تكتمل كينونته الحياتيّة والثقافيّة. إبداع القصيدة هو في العمق إبداعٌ للذّات. ولا نستطيع أن نبدع الخارج إلا بدءاً من إبداع الدّاخل. لا يستطيع أن يثوِّر الحياة والمجتمع شخصٌ لم يثوِّر نفسه أوّلاً. الإبداع الشّعريّ أو الفنّيّ بعامّة ليس مجرّد إبداع للأثَر قصيدةً أو لوحةً أو تمثالاً، وإنّما هو كذلك إبداعٌ للحياة ذاتها. ( ... ) هكذا لم تَعُد خصوصيّةُ الشعر العربيّ تتمثّل في مجرّد انتمائه التاريخيّ، أو اللغويّ أو الثقافيّ بعامّة. إنّ خصوصيّته هي في كونيّته. فلم يعدْ ممكناً فهمُ العالم العربيّ في معزلٍ عن الكون، كما لو أنّه أُنزِل هو، وحده، في خريطةٍ رسَمَتْها يدُ السّماء. إنّه الآن جزءٌ لا يتجزّأ من الخريطة الكونيّة. وهي إذاً خصوصيّة الإبداع الفرديّ، خصوصيّة الصّوت الذي يخرج من كينونة الشاعر العربيّ، من تجربته الخاصّة، ومن رؤيته الخاصّة إلى الإنسان والعالم .» تباريح ـ أ ـ قوسُ قُزَح ينحني فوق رأسٍ مقطوع. ـ ب ـ شمسُ هذا النّهار تنهض، وتتوكّأ هي أيضاً، على النّباتات وجذوع الشّجَر. ـ ج ـ تِلالٌ صغيرةٌ من أجسام أطفالٍ مهاجرين، تتنقَّلُ عليها خطواتُ الهواء. ـ د ـ من أيّة جهةٍ تُقبِل هذه النّوارس؟ ولماذا تطوفُ صامتةً حولَ المآذن وقبابِ الكنائس؟ ـ هـ ـ فجرٌ يكادُ أن يسيلَ دماً. ـ و ـ عبَثٌ زائرٌ لم يجئ كي يُقيمَ، تقولُ الحياةُ، ولكنْ جاء حتّى يتزوّجَ رمْلَ الزّوالِ، ويلبسَ أبعادَهُ، وحتّى يزولْ. سامِريهِ، احتفاءً به، ووداعاً لأنقاضِه، أنتِ، يا هذه الأبجديّة، يا هذه الفصولْ.
مشاركة :