على رغم أننا هنا أمام واحد من أكثر الكتب جدية وعلمية في تاريخ الفكر الفرنسي، فإننا نفضل أن نبدأ الحكاية من معتقل ألماني خلال الحرب العالمية الثانية. فمن بين نزلاء ذلك المعتقل كان ثمة باحث شاب في التاريخ قبضت عليه سلطات فيشي الموالية للنازيين الألمان المحتلين فرنسا فيما كان يتولى قيادة مجموعة من الجنود الديغوليين الفرنسيين. عندما وجد الجندي الشاب نفسه في السجن وأدرك أن الأمر سيطول به هناك، رأى أن أفضل ما يمكنه أن يفعل هو تحبير مئات الدفاتر المدرسية الصغيرة الحجم التي لم يكن متوافراً ما هو أفضل منها. وهكذا، خلال سنوات المعتقل أنجز العالم الشاب كتابة ألوف الصفحات بخطه الصغير، واستناداً أحياناً إلى ذاكرته، وفي بعض الأحيان الأخرى إلى ما كان احتفظ به على رغم أسره، من ملاحظات وقصاصات، ثم أخيراً في مرحلة متقدمة، إلى ما توافر له من كتب موجودة في مكتبة معتقل مايانس الذي نقل إليه لاحقاً. هنا قد يجدر بنا أن نفتح هلالين لنذكر كم أن حكاية هذا المؤلف الشاب وكتابه تذكّرنا بحكاية عالمنا العربي إبن خلدون وكتابه «كتاب العبر» و»مقدمته» الذي دوّنه وهو معتكف بدوره في قلعة إبن سلامة وحيداً متفرغاً لعلمه وفكره قالباً به علم التاريخ بأكمله محوّلاً إياه إلى علم اجتماعيّ شامل. > كان اسم الشاب الفرنسي فرنان بروديل، وكان لسنوات خلت قد انضم إلى مجموعة من المؤرخين الجدد المنتمين إلى الجيل السابق عليه، ومن بينهم مارك بلوك ولوسيان فيبر، وكانوا هم أنفسهم الذين أسسوا مجلة «الحوليات» التي لعبت وستلعب دوراً كبيراً في تثوير التاريخ ودراسته. أما بروديل فإنه سيتزعم الجيل الثاني من بينهم، ليصبح بعد الحرب العالمية الثانية، واحداً من أبرز المؤرخين في العالم. وأما الكتاب الذي كتب فصوله الأساسية داخل المعتقل فهو «المتوسط والعالم المتوسطي في زمن فيليب الثاني» الذي كان من أوائل كتب بروديل، وفاتحة تلك السلسلة من الكتب التي على غرار مدرسة ومجلة «الحوليات» لعبت دوراً تأسيسياً شديد الأهمية في إحداث تلك القلبة من «ألتاريخ الحدثي» إلى «التاريخ بالمعنى الاجتماعي الشامل للكلمة». > ومع هذا، حين شرع بروديل في تأليف هذا الكتاب، لم يكن يتصور أنه سيكون ثورياً إلى هذا الحد، ولا ضخماً إلى هذا الحد حيث انتهى إلى أن يشغل أكثر من ألف صفحة بالخط الطباعي الدقيق، وإلى أن يغطي حقبة تاريخية تمتد بين العامين 1550 و1600. بل أكثر من هذا: في البداية كان فرنان بروديل قد وضع لكتابه عنواناً هو «سياسة فيليب الثاني الديبلوماسية المتوسطية». لكنه حين عرض المشروع على أستاذه لوسيان فيفر الذي كان معروفاً في ذلك الحين بكونه واحداً من أفضل الباحثين الذين اشتغلوا على فيليب الثاني، كتب هذا إلى بروديل رسالة تساءل فيها: « فيليب الثاني والمتوسط؟ إنه موضوع جميل. ولكن لم لا يكون المتوسط وفيليب الثاني؟ أوليس هذا موضوعاً كبيراً أيضاً؟ بين هذين القطبين اللذين هما فيليب والبحر المتوسط ليس ثمة تكافؤ في الحجم». وسيقول الباحثون لاحقاً أن استجابة بروديل لطلب أستاذه جعلت من ذلك الحيّز البحري، العنصر الرئيس في العمل. كما أنها قلبت المعادلة لتجعل من المعنى الذي تضمنته القلبة جوهر توجهات مدرسة «الحوليات» بأسرها. > منذ سنوات الثلاثين كان لوسيان فيفر وزميله مارك بلوك قد بدآ يعملان على إحداث تلك الثورة في علم التاريخ التي جابهت التيار الوضعي الذي كان يشتغل على التاريخ الحدثي، منتقلة إلى الاهتمام بتاريخ الحياة السياسية والحياة الاجتماعية وصولاً طبعاً إلى الحياة الاقتصادية مع التوقف عند تاريخ الذهنيات الجماعية، ما قارب في شكل أساسي ونهائي بين التاريخ والعلوم الإنسانية. وكل هذا يمكننا الآن أن نجده لدى بروديل منذ مؤلفه الأول هذا، وصولاً بالطبع إلى مؤلفه الكبير الآخر التالي له «الحضارة المادية، الاقتصاد والرأسمالية بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر» والذي صدر في ثلاثة أجزاء – ومترجماً إلى العربية على يد مصطفى ماهر عن المركز القومي للترجمة في مصر -. غير أن هذا السفر الأساسي الكبير سوف يأتي لاحقاً، أما الآن بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، في العام 1949 فإننا كنا لا نزال مع فرنان بروديل في عالمي المتوسط وفيليب الثاني الإسباني والقرنين السادس عشر والسابع عشر. > كما بات واضحاً لدينا الآن، يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام أساسية تشكل تلك الأطروحة التي ناقشها المؤلف في العام 1947 وكانت أولاً في نحو 1160 صفحة لتتوسع عند طباعتها ككتاب إلى 1222 صفحة. في القسم الأول يصف بروديل تحت عنوان «حصة البيئة» ما اصطلح على تسميته «التاريخ المتواصل» أي التاريخ شبه الثابت الذي تكون التغيرات فيه على المدى الطويل. وبالتالي لا يشهد تلك الانقلابات الكبيرة في الذهنيات. هنا يتجه المؤلف أساساً إلى دراسة علاقة الإنسان ببيئته، وكيف يتم تبادل التأثر والتأثير هنا على وقع التغيرات الحاصلة في الطبيعة وبفعل العوامل الخارجية، ما يختصره بروديل بعبارة «إنها التأثيرات الجغرافية، أي العلاقة بين ما هو اجتماعي وما هو مرتبط بالمكان». وهذا التأكيد هو ما يتيح لبروديل دراسة الحيز المتوسطي على ضوء ديمومته وجغرافيته مفرقاً بين شمال المتوسط، «الأراضي المسيحية التي يقيم فيها قوم مزارعون ومتاجرون ثابتون في مناطقهم، تقابلهم إلى جنوب البحر مناطق جرداء قاحلة يضطر سكانها إلى التنقل الدائم»... ويرى بروديل في هذا السياق أن العلم الذي يساعد التاريخ أكثر من أي علم آخر إنما هو الجغرافيا التي لا تتوقف عن التأثير فيه حيث أن «الرصد الجغرافي هو الذي يسمح لنا بأن ندرك التغيرات الأكثر بطئاً التي يعرفها التاريخ، كانزياحات مواقع المدن أو التبدلات البطيئة في رسم الطرقات». > في القسم الثاني من الكتاب يتحدث المؤلف عما يسميه «المصائر الجماعية وتحرك الجماعات». هنا يصل بروديل إلى ما يعتبره الشأن الأهم في حركة التاريخ أي «التاريخ البنيوي ذو الإيقاع البطيء.. والذي قد نعتبره تاريخاً اجتماعياً، هو تاريخ للمجموعات والتجمعات». وهذا ما يقود المؤلف إلى ما هو أساسي في عمله وفي عمل مدرسة الحوليات ككل: التاريخ الاقتصادي وتاريخ التبادل. ومن أجل الغوص في هذا التاريخ يرسم لنا المؤلف محاور ودروب التواصل البحرية والبرية حيث يحرص على تحديد سرعة التبادلات من خلال تطور سرعة السفن وأدوات النقل البري والنهري، متوقفاً عند أهم أسواق التبادل التجاري، وبالتالي أهم الأسواق ومدن التبادل، وهو ما سوف يعود إلى دراسته في العمق في كتابه الأساسي التالي الذي أشرنا إليه. ولعل الملاحظة الأساس التي تفرض نفسها هنا هي أنه إذا كان الهمّ الأساس لفرنان بروديل في القسم الأول من الكتاب الذي نحن في صدده، كان هماً مكانياً توقف طويلاً عند الجغرافيا، فإن الهم الأساس في القسم الثاني كان هماً زمانياً، يدرس حركة الزمن ودورة الأيام في الحيز المتوسطي على ضوء حركية المجتمعات ولعبة التبادل والدورات الاقتصادية. > وبالتالي بعد المكان والزمان، ها هو بروديل يصل في القسم الثالث والأخير إلى ما هو أقل أهمية لديه في منظوره الدراسي للتاريخ: إلى الأحداث والسياسات، راجعاً من هنا مرة أخرى إلى البشر أنفسهم، ولكن ليس هذه المرة من منطلق الجماعات وعلاقة البشر مع الجغرافيا أو مع لعبة التبادل، بل من منطلق تأثر الأفراد بالحراك المعتاد للتاريخ نفسه، ما يوصله هذه المرة إلى خصوصية الشعوب المتوسطية في علاقتها بما عرفه هذا البحر الجامع «جغرافياً وتاريخياً» من أحداث يحرص التاريخ العادي على تدوينها. لكنها في تاريخ بروديل تتخذ دلالات صحيح أنها هامة لكنها وبحسب لغته نفسها: «إنه التاريخ الذي يبدو لنا من بين كل التواريخ الأكثر إثارة للشغف، الأكثر ثراء في أبعاده الإنسانية... لكنه الأكثر خطورة أيضاً، ولذا علينا أن نأخذ حذرنا من هذا التاريخ الذي لا يزال ملتهباً وحارقاً حتى الآن». ترى هل علينا أن ننسى أن بروديل كتب هذا الكلام في سنوات الأربعين ليقدم له قائلاً أول كلامه: «أنا أكتب عن المتوسط لأنني أحبه، مثل أهل الشمال جميعاً»؟
مشاركة :