استخدم الإنسان منذ عصور قديمة مواد طبيعية مستخلصة من البيئة المحلية في البناء والطلاء والزخرفة، ومن تلك المواد كانت مادة "النّورة" –الاسم الذي تُعرف به في جازان-، التي كانت تستخلص من الأحجار الجيرية (الكلسية) المتوافرة بكثرة، واستخدمها الأهالي في جازان منذ القدم لتزيين بيوتهم، بحثا عن جمال من نوع يتوافق مع طبيعة المكان، كجزء من ذاكرة الفن الإنساني الإبداعي. تحدث لـ"الوطن" رئيس قسم الآثار بجامعة جازان الدكتور فيصل الطميحي، عن هذا الفن وطريقة إعداده اليدوية التي كان يُنفذ بها، ومكوناته وأسمائه المحلية، مبديا أسفه لاندثار هذا النوع من الفن بالكامل على مستوى الاستخدام الفعلي في تزيين الأبنية اليوم. التهيئة للطلاء وذلك عبر حرق تلك الأحجار في أفران مخصصة لذلك الغرض، وهو ما كان يحصل في منطقة جازان على غرار غيرها في أنحاء العالم. قد يظن البعض أن مادة النورة هي نفسها مادة الجص، والحقيقة أنهما تختلفان في مكوناتهما الكيميائية، والتشابه بينهما حاصل في الاستخدام وفي اللون الأبيض، وإن كان لون النورة أشد نصاعة من لون الجص. كانت مادة "النورة" بعد تهيئتها تستخدم مادة تكسية وطلاء لكل جدران وأسقف المباني الحجرية من الداخل والخارج، وتارة كانت تستخدم على هيئة إطارات تحيط بالأبواب والنوافذ في بعض المباني الحجرية، ومن مميزات مادة النورة أنها تسهل تشكيل الزخارف عليها بعد طلاء الجدران بها، عن طريق تمرير قالب الزخرفة عليها حين تكون لا تزال طرية، وإما عن طريق نحت وحفر الزخارف عليها ببعض الأدوات الحادة وذلك بعد أن تكون قد قست وصارت صلبة. ولطبيعة "العشة" التهامية -البيت التقليدي- في منطقة جازان التي كانت تبنى بجريد شجر السدر، بأعواد "المظ"، على شكل يقارب شكل القبة ذات الرأس المدبب، وتكسى من خارجها بالنباتات والحشائش (الثمام والمرخ)، ومن ثم يجري تثبيت كل ذلك وتغطيته بالحبال القوية، أما من الداخل، فالنساء هم من يتولين أمره فتجري تكسية وتغطية الجريد والأعواد كلها من قمة "العشة" إلى أسفلها بطبقة كثيفة من الطين المخالط بالقش وببعض المواد العضوية. مرحلة التزيين حين تجف النُورة وتتحول إلى الصلابة، تبدأ "النَّوّرة" –المشتق اسمها من مادة النورة المادة الأساسية، إذ تتولى النساء هذه العملية في الغالب، بوضع طلاء النورة من أعلى قبة العشة من الداخل، نزولا إلى الأسفل وصولا إلى المسافة المرغوبة، والتي غالبا ما تزيد عن المتر ونصف المتر ارتفاعا عن الأرض، وقد تصل طبقة طلاء النورة إلى نصف العشة أو إلى مسافة قريبة من أرضيتها، وبعد أن تجف وتتصلب طبقة الطلاء، يقمن بالعمل على تقسيمها بخط رقيق باللون الأسود المستخلص من القطران الخفيف (الشوب)، إلى أشرطة أفقية متساوية العرض، بشكل دائري، فينشأ عن ذلك أشرطة بيضاء تفصل بينها خطوط سوداء، يتم ملؤها بالقطران الثقيل (الروب)، وتحته شريط أبيض، وهكذا ترسم الخطوط بشكل متعاقب. فينتج عن ذلك شكل جميل من الزخرفة يشبه زخرفة الأبلق، وهي الزخرفة التي كانت مستخدمة في العمارة الإسلامية قديما، وقد يكون هناك لون ثالث هو الأحمر، ويقال له "المَغرة"، تستخلص مادتها من بعض الأحجار المحتوية على أكسيد الحديد، وهي مادة قديمة كانت مستخدمة في التلوين منذ عصور قديمة وبنفس الاسم أيضا، ثم تزخرف الأشرطة البيضاء بزخارف هندسية ملونة، دوائر، وشبكات، ومربعات، ومثلثات، ونحوها، وكان بعض أهل تلك البيوت التقليدية (العشة)، يضيف إلى الزخارف الهندسية بعض الكتابات الدينية، وتحديدا الشهادتين، وبعض العبارات والكتابات الشعرية التي تتضمن الدعاء والترحيب. إهمال يلغي الماضي يعزو رئيس قسم الآثار بجامعة جازان، اندثار هذا النوع من عمليات التزيين الخلاب، إلى تخلي المجتمع الجازاني عن كثير من العادات القديمة، بفعل التغيير الكبير الذي حدث في طرق البناء والزخرفة، ولم تعد تستخدم إلا كاستعراض وتذكير بالماضي في أماكن محدودة جدا.
مشاركة :