تمتلئ الحياة بالمواقف الإنسانيَّة والعاطفيَّة، منها ما هو غريب وطريف، ومنها ما هو حزين ومبكٍ. ولعل عيادات الأطباء والمستشفيات هي المكان الخصب لمثل هذه المواقف على تنوعها، فهل فكرنا يوماً في غرف المرضى وحال أهلها، وما في غرفة العمليات وكيف هي لحظاتها العصيبة، وهل استشعرنا يوماً معاناة المرضى وصراعهم مع المرض، وعجائب مقادير الله وتصريفه في شؤونهم؟ «سيدتي» ترصد أبرز القصص الطريفة والإنسانيَّة على لسان أطباء عاشوها مع مرضاهم، وحفرت في ذاكرتهم. فرح وبكاء لا ينسى الدكتور أحمد الراس، استشاري أمراض النساء والتوليد والعقم، قصة المريضة، التي أتت إليه منذ أكثر من ثلاثين عاماً وكانت تعاني من عدم الإنجاب قرابة 25 سنة، وقرَّر عمل عمليَّة لها مع إعطائها بعض العلاجات الأخرى. وبعد قرابة الشهرين من بدء العلاج جاءت إليه بعد تأخر الدورة الشهريَّة وتم عمل التحاليل، التي أثبتت أنَّها حامل إلا أنَّها رفضت التصديق بدعوى أنَّ التحاليل خاطئة فطلب منها الحضور بعد أسبوع وأعاد لها التحليل، الذي أظهر أيضاً بأنَّها حامل، لكنها لم تصدق ولم تخبر زوجها أو عائلتها. واستمرَّت بالحضور إلى العيادة بصفة دوريَّة، وفي الشهر الثالث تمكَّنت من سماع نبض الجنين، لكنَّها ما زالت غير مصدقة وترفض إخبار أحد حتى زوجها. واستمر بها الحال حتى نهاية الشهر الرابع وفي إحدى المراجعات وأثناء فحصي لها شعرت بحركة الجنين فانفجرت أمامي بالبكاء ولا يمكن لأي إنسان تصديق مدى السعادة والفرحة التي غمرتها وقامت بإخبار زوجها وعائلتها، ووفقها الله وأنجبت طفلا سليما ومعافى. درس لن أنساه وتقف الدكتورة خولة الكريع، كبيرة علماء أبحاث السرطان بمستشفى الملك فيصل التخصصي، ومركز الأبحاث، وتستذكر قصة أحد المرضى معتبرةً إياها نقطة تحول في حياتها وتقول: كان مصري الجنسيَّة، وكنت اعتني به خلال فترة التطبيق الإكلينيكي أثناء دراستي في كليَّة الطب، ويعمل أستاذاً للكيمياء، ويتسم بالصبر والحكمة، ورغم حالته السرطانيَّة المتأخرة إلا أنني كنت أرى دائماً على وجهه ابتسامة مشرقة وثباتاً مختلفاً. كان يرفض أخذ أي مسكنات ويقول: لا أريد ما يمنعني من التقرب لربي وطلب الرحمة منه. وفي مرَّة حاولت التخفيف عنه وأخبرته أنَّ بعض المرضى لا يتجاوبون مع العلاج الكيماوي من المرَّة الأولى ثم يتم التجاوب بعد ذلك فرد: أنا لست خائفاً من لقاء ربي، وإن شاء الله ربي سيجمع لي بين الأجر والمغفرة، لكن أنتم يا من منحكم الله فرصة ثمينة لمساعدة الناس وبث الأمل، فلا تدعي هذه الفرصة تفوت بعمل روتيني بإعطاء هذه السموم لمرضى السرطان. اجتهدوا في إيجاد علاج لهذا المرض وثابروا في معرفة لماذا لا يتجاوب البعض مع هذا العلاج في الوقت الذي يتجاوب فيه غيرهم، فالإجابة هي ما ستساعدكم في إيجاد علاج أكثر فاعليَّة وأقل سميَّة، وإنَّي لأراك أحد هولاء الذين سيجعل الله الشفاء على أيديهم. بعد 5 أيام انتقل إلى رحمة ربه فحزنت عليه وبقي رنين كلماته يتردد على مسامعي. واليوم ومع كل التقدُّم، الذي أحرزناه من خلال أبحاثنا أصبحنا بالفعل قادرين على استخدام جيل جديد من الأدوية يسمى «الأدوية الموجهة»، التي تُعطى للمريض بحسب التغيُّر الجيني في الورم، الذي لديه، ومع النجاح الباهر، الذي حققته هذه الأدوية أصبحنا بالفعل على بعد خطوات من القضاء على مرض السرطان. فكان ذلك المريض وحديثه لي من أهم الأسباب التي جعلتني أتخصص في علم الأورام وجينات السرطان وأبحاثه، وكلما توصلت مع فريقي العلمي لاكتشاف جديد وتم نشره في المجالات الطبيَّة أتذكر ذلك المريض وأدعو له بالرحمة وأتمنى أن يصله أجر نصيحته لي قبل عقود من الزمان. خمسة كيلوغرامات ويروي لنا الدكتور مخلص العم، استشاري طب الأطفال وحديثي الولادة والربو والحساسيَّة، قصة الشاب ماجد فيقول: دخل لعيادتي شاب برفقة زوجته وابنته الأولى وعمرها شهران وتزن خمسة كيلو غرامات فقط، وبعد استبيان المعلومات وإجراء الفحص الطبي تبيَّن أنَّ الوالد كان من رواد عيادتي في صغره وحين سارعت إلى الكومبيوتر واستعدت الملفات القديمة ووقعت على ملفه كانت المفاجأة الكبرى بأن أول زيارة له لعيادتي عندما كان بعمر الشهرين ويزن أيضاً خمسة كيلوغرامات، وذكرته بأنَّه كان يرتدي الحفاضة بين ساقيه في ذلك الوقت فانفجر الجميع بالضحك ونظرت له زوجته ضاحكة وأصيب بالحرج وساد جو استثنائي بالعيادة. ومنذ ذلك الوقت وخلال الزيارات التالية أبدأ حديثي معه قائلاً: «أيوه يا خمسة كيلو» فيسود جو من المرح في العيادة. علاقة صداقة وتتذكر الدكتورة حنان الشمراني، استشاريَّة نساء وتوليد وجراحات الحوض التجميليَّة، قصة إحدى المرضى لديها التي لا تنساها لما اشتملت عليه من معاناة وصراع وألم تقول: كانت مريضة تعاني من مرض مزمن ولم تعالج منه. أجريت لها عمليات عديدة في محاولة لمنع استئصال الرحم لكن من دون جدوى. كانت تعاني من آلام مزمنة شبيهة بآلام مرضى اللأورام، وعلى مدى ثلاث سنوات كانت تأتي لعيادتي بصفة دوريَّة وتحولت علاقتي معها من علاقة طبيب مع مريضه إلى علاقة صداقة. كنت أشعر بمعاناتها وكانت تتواصل معي على الدوام. وبعد فترة ورحلة شاقة من العلاج تعالجت وتخلصت من الآلام الشديدة التي كانت تعاني منها. وأضافت كانت تلك الحالة من أكثر الحالات الإنسانيَّة التي علقت بذاكرتي ولا يمكن أن أنساها.
مشاركة :