تقاسيم (دوائر خلافاتنا المحلية الموسمية)

  • 5/31/2016
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

ميــزة الاختــلاف أنه يضعنا دومــــاً إزاء خيط رفيـــع وحــاد. خلافاتنــــا تتحول بفعل المتعصبين والمتشددين والخائفـــين علــــى الشعبية والجماهيرية الى مباريات ساخنة لا تقبل أنصـــاف الحلول. وليت السخونة تتوقف عند حدّة الرأي والطـــرح، لكنها تتجاوز فتقدم لنا من ألفاظ السوق والشارع ما يجعلـــنا نثق تماماً بأن الأدوات التي اشتغل عليها المتشنجون هـــي أدوات ذات رأي أحادي وعمل جماعي خادم لمصالح معروفـــة لا تخـــفى علــى واع... ولم أحضر هنا للكتابة لأجلها. تخيل أن تختلف مع أحدهم وهو يصف نفسه كما يحب لا كما نحب، ويرى شخصه وصــــياً على العقول ملماً بما يحيط بنا وما يخطط له الآخرون، ويستخـــدم عبارات دالة على ثقل المحتـــوى وعمــــق التجربة وقدرته البارعة في الحوار واستيعاب أدب الاختلاف. تخيل إبداعه حين يصف مخالفيه فيقــول عنهـــم: «إنهم كاذبــــون، ينفذون أجندات أخرى، ذوو فكر أجوف، يعانون سقوطاً فكرياً، ليبراليون، أعداء للدين والوطن». عَجْزنا عن ضبط الحضور الشخصي أثناء الخلاف أو المناظرة دليل فقر في المحتوى، ومؤشر إلى أن الألم استوجب قدراً هائلاً من الصراخ، فضلاً عن المفصل الأدق وهو أن التأثير الكبير لما وراء أوراق الخلاف يتطلب التضحية بأي شيء وقول أي شيء، إذا ما سلمنا بأن هناك قطيعاً بشرياً يمكنه أن يسير مغمض العينين خلف الآراء الأحادية الطرح، لكون عقله في إجازة حتى إشعار آخر، ولأنه تعلم ألا يسأل وألا يناقش ويستمع بصمت وينصت لأساليب التلقين والحشو. يتفنن الأوصياء على العقول في إزاحة الجميع لأجل الانتصار في كل المواقف والخلافات، ومن لوازم الإزاحة تصفية الباحثين والمتسائلين والشاكين. وليت هذه التصفية تعمد الى تعبئة فراغ الإجابة والوقوف عند دائرة الخلاف، لا الخروج الدائم عنها وإحضار المخاوف والشكوك والتهديدات ورمي التهم الطازجة وإقناع البسطاء والعامة أن كل من يأتي بسطر لا يوافق المعتاد ويخالف السائد فهو منحل خائن راغب في إسقاط المبادئ وحل المجتمع وجره الى الهاوية. ما يعجبني في دوائر الاختلاف الاجتماعية المحلية أن فيها من يؤمن ويقدس ويغرق مع صاحب الصوت الأعلى على حساب منطقية الطرح، ويندفع مع ذي الإطلالة المغرية والقدرة البارعة في اللعب بالألفاظ وتجييش المشاعر والعواطف انطلاقاً من مشكلاتنا الكبرى وهي فقر السعودي عاطفياً، فحين يأتي من هو بارع في اللعب على إشباع هذا الفقر ولو بالكلام، فثمة انقياد عجيب له وتضحية مذهلة تصل إلى الدفاع عنه مهما قال ومهما فعل. وتذهب بعد ذلك إلى ما تظنه جهاداً لحظة الدفاع عنه، وإن كان ما يأتي به من التناقضات كافياً لتشنج عضلات التفكير تماماً. نختلف ونصنف ونقذف ونتهم الآخرين لأجل قضايا هي في الأساس قضايا خلاف معلوم، وقضايا أراها في الهامش من الطرح، ونحولها بفعل التشنج والإقصاء وسحق الرأي الآخر من قضايا لتحديد العلاقة بالرب إلى قضايا لتحديد علاقة الإنسان بمجتمعه. وليت صراعنا الديني والفكري والاجتماعي يتجه نحو قص أجنحة الإرهاب والتطرف والتحريض والانتماء الحزبي والطائفية، نيابة عن إجبار العقول على مصارعة أحكام شرعية منغلقة لقضايا هي محل خلافات فقهية معلومة، وسيكون الجدل فيها نابضاً ما دامت العقول الصدئة تقسم أن الاختلاف «هراء»... لا «ثراء».

مشاركة :