تقاسيم(الخلافات الصفرية)

  • 1/1/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يضعنا الاختلاف دوماً على المحك. خلافاتنا تتحول، بفعل المتعصبين والمتشددين والخائفين على الشعبية والجماهيرية، إلى مباريات ساخنة لا تقبل أنصاف الحلول. وليت السخونة تتوقف عند حدة الرأي والطرح لكنها تتجاوزه فتقدم لنا من الألفاظ السوقية والشوارعية، ما يجعلنا نثق تماماً بأن الأدوات التي اشتغل عليها المتشنجون هي أدوات ذات رأي أحادي وعمل جماعي خادم لمصالح معروفة لا تخفى على واعٍ، ولم أحضر هنا للكتابة من أجلها. تخيل أن تختلف مع أحدهم وهو يصف نفسه كما يحب لا كما نحب، ويرى شخصه وصياً على العقول، ملماً بما يحيط بنا وما يخطط له الآخرون، ويستخدم عبارات دالة على ثقل المحتوى وعمق التجربة وقدرته البارعة في الحوار واستيعاب أدب الاختلاف. تخيل إبداعه حين يصف مخالفيه فيقول عنهم: «كاذبون، ينفذون أجندات أخرى، ذوو فكر أجوف، يعانون عهراً فكرياً، ليبراليون، أعداء للدين والوطن». عَجْزنا عن ضبط الحضور الشخصي أثناء الخلاف أو المناظرة دليل فقر في المحتوى، ومؤشر إلى أن الألم استوجب قدراً هائلاً من الصراخ، فضلاً على المفصل الأدق، وهو أن التأثير الكبير لما وراء أوراق الخلاف يتطلب التضحية بأي شيء وقول أي شيء، إذا سلمنا بأن هناك قطيعاً بشرياً يمكنه أن يسير مغمض العينين خلف الآراء الأحادية الطرح، لكون عقله في إجازة حتى إشعار آخر، ولأنه تعلم أن لا يسأل ولا يناقش ويستمع بصمت وينصت لأساليب التلقين والحشو. يتفنن أوصياء العقول في إزاحة الجميع من أجل الانتصار في كل المواقف والخلافات. ومن لوازم الإزاحة تصفية الباحثين والمتسائلين والشاكين، فليت هذه التصفية تعمد إلى تعبئة فراغ الإجابة والوقوف على دائرة الخلاف لا الخروج الدائم عنها وإحضار المخاوف والشكوك والتهديدات، ورمي التهم الطازجة وإقناع البسطاء والعامة أن كل من يأتي بسطر لا يوافق المعتاد ويخالف السائد، فهو منحل خائن راغب في إسقاط المبادئ وحلّ المجتمع وجره إلى الهاوية. ما يعجبني في دوائر الاختلاف الاجتماعية إيماننا بالصوت الأعلى أكثر من منطقية الطرح، واندفاعنا مع ذي الإطلالة الأكثر والقدرة البارعة في اللعب بالألفاظ وتجييش المشاعر والعواطف، انطلاقاً من مشكلتنا الكبرى وهي فقرنا العاطفي، فحين يأتي من هو بارع في اللعب على إشباع هذا الفقر، ولو بالكلام، فثمة انقياد عجيب له، وتضحية مذهلة تصل إلى الدفاع عنه مهما قال ومهما فعل. وتذهب بعد ذلك إلى ما تظنه جهاداً للدفاع عنه، وإن كان ما يأتي به من التناقضات كافياً لتشنج عضلات التفكير تماماً. نختلف ونصنف ونقذف ونتهم الآخرين من أجل قضايا هي في الأساس قضايا خلاف معلوم، وقضايا أراها في الهامش من الطرح لتقاطع العادات مع الدين فيها، وتحولها بفعل التشنج والإقصاء وسحق الرأي الآخر، من قضايا لتحديد العلاقة بالرب إلى قضايا لتحديد علاقة الإنسان بمجتمعه. وليت صراعنا الديني والفكري والاجتماعي يتجه نحو قص أجنحة الإرهاب والتطرف والتحريض والانتماء الحزبي والفساد والظلم، بدلاً من إجبار العقول على مصارعة أحكام شرعية منغلقة لقضايا هي محل خلافات فقهية معلومة، وسيكون الجدل فيها نابضاً ما دامت العقول الصدئة تقسم بأن الاختلاف «هراء»... لا «ثراء».

مشاركة :