ما أنجزته الثورات العربية بعد انفجارها المفاجئ، قبل خمس سنوات، هو أنها افضت إلى زعزعة الأنظمة العربية القائمة منذ عقود، بقدر ما كشفت ما مارسته من الادعاء والخداع والزيف، في كل ما رفعت من شعارات. والمقصود هنا هو الأنظمة الاستبدادية التي استولى أصحابها على السلطة بانقلابات عسكرية، ليحكموا بعقل أمني استخباراتي قوّض هامش الحرية الذي كانت تتيحه الأنظمة السابقة. الأنظمة الاستبدادية، وإن اختلفت من حيث أشكالها وأساليبها في الحكم والإدارة، فإنها تتراوح ما بين نظامين: سلطوي وشمولي. النظـــــام السلطوي هاجس أصحــابه الوصول الى السلطة والقبض عليها والبقاء فيها بأي وسيلة أو ثمن. ولكن أصحاب هذا النظام لا يمتلكون عناصر القوة وأسبابها، من لُحمة عصبية أو منظومة إيديولوجية أو تحالفات استراتيجية، وسواها من الأسلحة الفكرية والسياسية التي تمكّنهم من الصمود والبقاء. ومثال النظام السلطوي الحكم في تونس في عهد زين العابدين بن علي، أو في مصر في عهد حسني مبارك. من هنا سقط كل من النظامين، في مواجهة الحشود الشعبية في كل من البلدين، في مدى أسابيع وبأقل التكاليف من الخسائر. هناك على الطرف الأقصى النظام الشمولي، وهو على عكس النظام السلطوي من حيث امتلاك مصادر المشروعية وأسباب القوة، وكما هي مثالاته في سورية واليمن وليبيا. وهو يقوم على ركائز أربع: عصبية طائفية أو قبلية يمكن اللجوء إليها عند الضرورة كدرع واقية للنظام. - منظومة إيديولوجية تشكل السقف الرمزي للنظام، ومنها يستمد مشروعيته العليا، وكما استخدمت شعارات الثورة والوحدة والاشتراكية أو المقاومة والممانعة، وهي شعارات تحولت الى تنانين لفظية توظف سياسياً لترهيب الناس وتهديدهم. - حزب فاشي يشتغل بقولبة العقول وتطويع الناس للانتظام في أطره ومؤسساته، ومن يعارض فمصيره التهميش أو الملاحقة أو الاعتقال والاستئصال. - جيش أو حرس وطني أو جمهوري يكون ولاؤه للنظام لا للدولة والشعب، وتكون مهمته حراسة صاحب النظام لا حراسة الوطن أو الدفاع عن البلد. هذه الركائز، التي هي بمثابة أسلحة فتاكة، فكرية وسياسية أو مجتمعية، هي التي صنعت صورة الــرئيس المتأله، بوصفه الزعيم الأوحد أو القائد المرشد او البطل المـــنقذ، الذي يعامل شعبه كمالك الملك الذي يتصرف في ملكه كما يشـــاء. وهي التي مكّنت النظام الشمـــولي العربي من الصمود، فــــي مواجهة الانتفاضة الشعبية. هذا جــــرى في سورية واليمن، حيث لم يسقط النظام، بل تم تحويل كل من البلديــــن الى ساحة للحروب الأهلية أو الى مسرح للتنظيمات الإرهابية، وذلك بإيقاظ كل ما كان راكداً من العصــــبيات الطائفية أو القبلية تحت منظومة الشعارات الزائفة إياها. ربما ينطبق توصيف النظام الشمولي على النظام السوري، الذي أعلن موقفه منذ البداية، بصورة حاسمة، وكما عبر عن ذلك أهله: لا تراجع ولا تنازل تجاه مطالب المعارضة. في اليمن، صحيح أن الرئيس السابق على عبدالله صالح تخلى عن السلطة، لكن ذلك لم يكن تنازلاً أو إقراراً بالهزيمة والانسحاب، كما حسب أهل الغفلة من الذين تسلّموا السلطة. كان الأمر مجرّد تراجع تكتيكي خادع، من أجل الانقضاض على الثورة والدولة. لأن الجيش كان في أكثر ألويته ما زال موالياً لصالح، ولأن الحرس الجمهوري هو بقيادة ابنه. هذا فضلاً عمّا عُرِفَ عن صالح من إتقانه اللعب على صراعات القبائل واستثمارها لمصلحته. من هنا عمل على حشد أنصاره واستجماع قوته، بالتحالف مع الحوثيين، أعدائه السابقين، وكانت النتيجة إغراق اليمن في بحور من الدماء، والانتقام من أهله، خصوصاً مدينة تعز التي كان لها الإسهام الكبير في اندلاع الثورة اليمنية. أما القذافي، الذي هدّد منذ البدايـــــة بتدمير ليبيا، ترجمةً للشعار الشمولي النيروني: أنا أو المحرقة، لم يشأ التراجع أو الاستسلام. لكنه لم يستطع الصمــــود لفترة طويلة. من هنــا لقي مصيره البائس، على يد بعــــض الثائرين الذين اعتقلوه وهو في طريقه الى الهرب، بغطاء جوي من القوات الدولية. وفي أي حال إن ليبـــيا الغارقة في الفوضى والنـــزاعات الدموية، كأنها تترجم شعار القذافي بعد أن حلّت محلّه التنظـــيمات الإرهابية، التي هي الوجه الآخر للنظام الشمولي العربي. نحن هنا إزاء نماذج من أنظمة لا تتراجع أمام أي مطلب. لا ترضى بالإصلاح ولا تقبل التفاوض او التنازل ولو قيد أنملة بقصد الوصول الى تسوية، لأن في ذلك نهايتها. ولا غرابة، لأن علة قيام النظام الشمولي هي ممارسة الحكم بعقلية القبض والتملك للسلطة والبلد والشعب. من هنا فإن صاحبه لا يتنازل أو يتراجع إلا بعد هزيمته. وإلا كيف نفسر أن صاحب النظام الاستبدادي العربي مستعد لأن يبيع نفسه لأعدائه كي يستعيد سلطته؟ بل كيف نفسر أن صاحب هذا النظام يمكن أن يضحي بشعبه ويبيع بلده، بوضعه تحت وصاية هذه الدولة الإقليمية أو تلك الدولة القوية، فقط ليبقى ممسكاً بكرسي للحكم فقد كل مبرراته؟! تلك هي الترجمة الفعلية لشعار أنا أو لا أحد، أنا أو بلدي. أنا أو شعبي. أنا أو عروبتي وهويتي. ومن تصرّف منذ البداية، بوصفه خالق بلده أو أن بلده مدين له، لا يهمه أن يدمره إن لم يبق حاكماً عليه أو مالكاً له. هذا الفهم لطبيعة الأنظمة العربية الاستبدادية، هو الذي يفسّر لنا كيف أن المحادثات، في شأن الأزمة السورية أو اليمنية، أو حتى الليبية، تحت إشراف الأمم المتحدة، لم تحرز أي تقدم، بل هي دخول في المتاهة ومضيعة للوقت لمصلحة النظام ضد المعارضة. كان المندوب السابق لهيئة الأمم في اليمن، يشرف على المحادثات بين القوى والأحزاب المختلفة، بمن فيهم الحوثيون أنفسهم، فيما كان هؤلاء بدعم من علي عبد الله صالح قد أصبحوا على أبواب صنعاء. وتلك هي الخديعة والأكذوبة. ولا حاجة إلى القول إن اللاعبين على المسرح من اقليميين ودوليين، يتقنون اللعبة الخبيثة، بترددهم بين دعم هذا الطرف العربي ضد سواه، أو بتواطؤهم الخفي مع من يدعون محاربتهم، كما كشفت فضيحة الدفاع عن "منظمة القاعدة" من جانب الحوثيين. ولا عجب فالجميع يعمل لكي تستمر الحرب، لأنه لا يريد أن تقوم في العالم العربي دول مستقلة، منتجة، غنية، فعالة. ويا له من قدرٍ مشؤوم أن تدفع الشعوب العربية المزيد من الأثمان قتلاً وتهجيراً وتدميراً، واستنزافاً للطاقات والموارد، حتى تنهزم الأنظمة التي قادتها الى هذه المآلات البائسة والنهايات الكارثية. والإنسان لا يحصد إلا ما زرع. وتلك هي نتيجة سياسات التراخي والغفلة أو العجز والسكوت والمحاباة والممالأة أو التورط والتواطؤ التي يسأل عنها الجميع. ومن المؤكد أن اللاعب الدولي أو الإقليمي، الساكت والعاجز، أو المتورط والمتواطئ، إنما يدفع هو الآخر، أو سوف يدفع، الثمن مزيداً من النشاط الإرهابي البربري، الذي يزداد انتشاراً في عصر بات يتيح لأي إرهابي أو انتحاري أن يصنع حزاماً ناسفاً ليفجر نفسه في ملعب أو مقهى أو فندق، أو لكي يدس بخفية عن أعين رجال الأمن بضعة غرامات من مادة متفجرة كافية لإسقاط طائرة. وليس بمستغرب أن يعمد طيار إرهابي انتحاري إلى تفجير طائرته، على غرار ما فعل الطيار الألماني، انتقاماً من دولته أو مجتمعه أو العالم. وهكذا فإن الإرهاب يصنعنا من حيث لا نحتسب، بتحويل مدننا إلى ما يشبه الثكنات والجزر الأمنية، كما تشهد، في مدينة بيروت، مقرات البرلمان والحكومة والوزارات وبيوت الزعماء والقادة والسفراء، حيث كل واحدٍ يقتطع مساحة وسط المدينة، لكي يسيجها ويقيم فيها بوصفها مقره الأمني، فإذا ما أراد ان يخرج من بيته الى أي مكان، يحتاج على سبيل التمويه إلى موكب من السيارات الكبيرة المصفحة التي لا يُرى من في داخلها. كي لا يفترسه ذئب أو نسر أو ضبع. فيا لها من حياة بائسة! والسؤال: ماذا تنفع القيادات والزعامات؟ وماذا تنفع الدفاعات عن الهوية والأمة والطائفة والوطن والخلافة والولاية إذا كانت ستصنع حياتنا على هذا النحو الوحشي؟ والدرس: لا جدوى، بعد الآن، من إدارة الشأن العالمي باعتماد المعايير المزدوجة، أو بخرق مواثيق الأمم المتحدة وقراراتها، أو باستخدام لغة الاستقواء والصدام والهيمنة. أما بالنسبة إلى المجموعة العربية المستهدفة من اللاعبين على المسرح، فالمخرج هو أن تجترح معجزتها وأن تتقن اللعبة، بابتكار رؤية أو مشروع أو إستراتيجية أو صيغة، تضع حداً للحروب القاتلة بين دولها وبلدانها، وتتيح استجماع الطاقات وحشد القوى، لامتلاك زمام المبادرة، سواء من أجل حفظ أمنها والدفاع عن مصالح شعوبها، أو من أجل بناء علاقات مع سائر الدول على أساس الثقة المتبادلة والمنفعة المتبادلة.
مشاركة :