عتبةُ المقال مثلٌ عربيٌّ تناقله المؤلفون في الأمثال جَمْعاً، وشَرْحاً. ولما كان لكل مثل قصة. فإن لهذا المثل قصةً ممتعةً. ولمن شاء من القراء معرفة مضرب المثل فليقص أثره في مضانه. والأمثال خلاصةُ التجارب الإنسانية، وكم من ضائقة فرجها استحضار المثل، وضربه في اللحظة المناسبة، وفي التنزيل {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}. وأنا بمضرب هذا المثل أنحي باللائمة على طائفة من المفكرين، والأدباء المتبحرين في كافة المعارف، المَنكِّبين عن ذكر العواقب جانباً، وذلك حين يُوغِلون في الشطح، ويتعمدون نطح الصخور لتوهينها، وما يوهنون إلا أنفسهم، على حد:- [وأوهى قرنه الوعل]. وعَبْرَ تاريخ أمتنا الحضاري يند عن سواء السبيل من لايقيم وزناً للرأي العام بوصفه [الفتنة النائمة] موقظاً برأيه لنَّشَز هواجع الفتن. ولو كانت مثل هذه المغامرات منجاة للأمة من تخلفها، وسبيلاً من سبل إقالة العثرات لخَّفتْ وطأتها، ولكنها مزايدات لا إضافة فيها، ولا طائل تحتها. والمجددون في الدين الذين بشر بهم من لا ينطق عن الهوى، بارعون في مخاتلة الرأي العام، وتوقي استفزازه، تمشياً مع قاعدة:- [دَرْءُ المَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ على جَلْبِ المَصَالِح]. فكم من مصلح ناصح غير خبير بعواقب الأمور، تَحَطَّم على صخرة الواقع، وصارت أحلامه هباءً، وصارت سدى، لأنه لم يستصحب فقه الواقع، والمداراة، والاتقاء، وفقه المآلات، ولم يتخول مستهد فيه بالرسالة السامية في ذاتها، التي يحمل هم توصيلها، وحمل الناس عليها. فما كل مباح ممكن، وفي التشريع فُسحٌ:- {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}. {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. التاريخ الحضاري الحديث، تعددت فيه الأصوات، وتنوعت الخطابات، واختلطت فيه الأوراق، وأصبح الناس معه في أمر مريج. فكأنهم بنوا إسرائيل، وبقرتهم. لقد تشابهت الخطابات، والأمة العربية وحدها التي تجرعت مرارات التناحر حول الثوابت، والمسلمات، ورأس الفتنة الاختلاف حول [الهوية]، و[العقيدة]، و[الولاء]، و[البراء]، وفهم سائر المصطلحات الإسلامية، إذ مادونها أخف وطأة. لقد بلغ الاختلاف ذروته زمن [العمالقة] ولكنه ظل في إطار التناجي الآثم. ومازال الاختلاف يتشعب، ويتنوع، ويزداد ضراوة. وكل اختلاف لاتحكمه مرجعية، ولا تؤطره منهجية، ولا تسوسه حكمة ولا أناة، يتحول إلى صدام مُسَلَّح. وذلك قدر أمتنا المنكوبة بنخبها العالمين، والمتعالمين، والأدعياء الفارغين. وعندما أُعَوِّل على المرجعية بشقيها: الشخصي، والمعرفي فإنما أريد ضبط إيقاع الاختلاف، وأطره في مجال القضايا المختلف حولها، وبعيداً عن التنابز بالألقاب. إذ لو تيقن الجميع بأنهم في إطار البحث عن الحق، وأنهم لايملكون احتكار الحقيقة، لأمكن توجيه القدرات المعرفية، وقوة الحجاج إلى مضان القضايا. مشاهد الفكر، والأدب في عالمنا العربي مرت بمعارك دينية، وفكرية، وأدبية ضارية. راح ضحيتها سمعةُ رموزٍ، لايستهان بمبلغهم من العلم، وليس من السهل الاستغناء عنهم، وإن جنوا بخطل تصرفهم على أنفسهم. فكم من كلمة، أو كتاب، أو شطحة فكرية، قالت لصاحبها:- دعني. ومصلحةُ المشاهدِ أن تظل الكفاءات المعرفية، والفكرية، تجالد، وتجاهد للوصول إلى الحقيقة المقيدة. إذ الحقيقة المطلقة لمَّا تزل في علم الله، وكل حقيقة نسبية تظل فيها بقية للتساؤل، والكشف. ومن قال: إن علم النحو -على سبيل المثال- أحرقه قومه، فهو كمن قال بنهاية التاريخ. سوح العلم، والفكر كالأرض الخصبة تربو، ويختلط نباتها، كلما تدفق فيها الماء. والجدلُ حولَ النوازلِ، والمسائل المتوسلُ بالمعرفةِ والمنهجيةِ هو الماء المتدفق، والأفكار الواعية المتفتحة، وغير المتعصبة هي الأرض الخصبة. والرسول صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً حياً، لو وعيناه لهان علينا ما نلاقيه من تصديات، تبحث عن الانتصار، ولا تقيم وزناً للحق. ففي الحديث الصحيح:- قال صلى الله عليه وسلم:- [مثلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلاء، والعشب الكثير. وكانت منها أجاوبُ أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا، وسقوا، وزرعوا. وأصابت منها أخرى إنما هي قيعانٌ لاتمسك ماء، ولا تنبت كلأ..]. والاختلاف المنضبط بالمعرفة، والمنهجية، وقبول الحق هو السبيل القاصد لتأصيل المعارف، وتحرير المسائل، واتساع رقعة المعرفة، والثقافة. وهذه الرغبات ثمنها غالي، والطريق إليها محفوف بالمخاطر، ومهما انتابَنا من التهيب فإن الجدل ماض إلى يوم القيامة. وعلينا القبول بقدرنا، وترويض أنفسنا لقبول الاختلاف، ومعايشته ففي الحديث:- [ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً] والمقصود به المتغيرات غير السارة في التحولات كافة. ومانوده من النخب الفكرية، والأدبية الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في تخول المتلقي للرؤية. ذلك أن المداراة، والاتقاء مطلب إسلامي ففي الحديث:- [لولا أن قومك حدثاء عهد بكفر لأعدت البيت على قواعد إبراهيم] أو كما قال بأبي هو وأمي. إن الاستخفاف بالرأي العام، والصدع بالمناقض بوصفه الحق في نظر المفكر دون النظر إلى حال المتلقي مغامرة محفوفة بالمخاطر. وتاريخنا الحضاري، والديني مر بمراحل قلقة منشؤها الاختلاف غير المبرر، وذهاب كل مفكر بما يرى، دون احترام لمشاعر الأمة. التجديد، والتغيير من السنن الكونية. والنمطية، والجمود، والتقليد فترات سكونية لا تليق بأمة مؤهلة لقيادة العالم. غير أن التجديد، والتغيير، وسائر التحولات يجب أن تكون محكومة بضوابطها، ومناهجها، وقدرة الأمة على استيعابها، واستعدادها معرفياً، وثقافياً على تحمل تبعاتها. فكم من ظروف غير سوية لا تحتمل التغيير. و[فقه التمكين] هو الذي يحدد القدرات، ومدى الاستيعاب، فحال المسلمين اليوم ليس كحالهم عندما هب [المعتصم] لنصرة المرأة المسلمة المستغيثة به في [عمورية]. وحالهم اليوم ليست كحالهم حينما أطَلَّ [الرشيد] من نافذة قصره ليقول لسحابة أرعدت، وأبرقت ولم تمطر:- [أمطري أنى شئت فإن خراجك عائد إلي]. للحديث صلة... مقالات أخرى للكاتب عِنْدَمَا تُهَيْمِنُ لُغَةُ الحَرْبِ.. وثَقَافَةُ الكَرَاهيَةِ! «2-2» عِنْدَمَا تُهَيْمِنُ لُغَةُ الحَرْبِ، وثَقَافَةُ الكَرَاهيَةِ ! « 1-2» لا نُمُوَّ ولا تَجَذُّرَ للثقافات والحضارات إلا بتعدد القراءات! الأُسْلُوبُ الأَجْدَى فِي مُقَارَبَةِ المُسْتَجِدَّاتِ.! « 2-2» رَحِمَكَ اللهُ أَبَا صَاِلح..!
مشاركة :